كان مطلب "تجار الشنطة الثقافية" أن يجعلونا ننظر بإكبار لإنجازات أوروبا - بسبب ما وصلت إليه من قوة البخار والكهرباء - ونضعها أمامنا قدوة ومثلاً أعلى ، نسعى للوصول إليه ، ونتشكل بشكله ، ومن ثم يصير كل شيء - ينتسب إلينا ، أو ننتسب إليه ، يتعلق بنا أو نتعلق به من أصولنا - يصير سلفياً ، جامداً ، مرفوضاً ، يجب التنصل منه ، والاعتذار عنه ، كأنه جذام أو عاهة ، وكان المطلوب أن نعتقد معهم بأن أوروبا والغرب قلعة للحرية والديمقراطية والتمدن واحترام الإنسان ، بينما يدوس النعل الأوروبي والغربي وجه الوطن الإسلامي ، اغتصاباً وإرغاماً وسحقاً تاماً للإنسان وحريته وكرامته واستقلاله. هؤلاء الباعة الجائلون الصم العمي الثرثارون - من "تجار بضاعة الشنطة الثقافية" - يكتب عنهم لويس عوض ، مؤيداً بأنهم أبناء الثقافة الغربية والمفهومات الغربية والوثنية الفرعونية - القومية المصرية - ويضعهم بسبب ذلك موضع الاستحسان والافتخار ، مما يثبت لنا أن عمليتنا الحسابية سليمة ، حيث نضعهم نحن موضع الاستياء والإدانة. ومع سرقة مطلب تحرير المرأة المسلمة ووقوعه في أيدي الجهلة والأعداء و"تجار الشنطة الثقافية" - كان الدأب منذ البداية لجعْل القضية قضية "تحرير المرأة" فقط ، مع إسقاط التعيين "المسلمة" ، ومن ثم ربطها بقضية تحرير المرأة في العالم ، كأنما صارت هناك قومية خاصة اسمها "القومية النسائية" ، تربط المرأة المسلمة بالمرأة المسيحية ، بالمرأة اليهودية ، بالمرأة عابدة البقر والأوثان ، بالمشركة ، بالملحدة..الخ ، كأن قضيتهن واحدة ، ومطالبهن واحدة ، وأهدافهن واحدة ، ومعتقداتهن واحدة ، وكان السعي - فعلاً - حثيثاً لتأخذ المرأة المسلمة ملامح المرأة الغربية ، وكلما تطابقت صورتها مع الغربية زاد الإعجاب بها ، وتقريظها بأنها لا تفترق عن الأجنبية ! ، حتى سقطت المرأة المسلمة فيما لم تسقط فيه حتى عابدة البقر ، التي ظلت معتزة بزيها الخاص (الساري) ، وتميُّزها بالنقطة الحمراء بين عينيها. كذلك كان الدأب الأهم لفصل قضية تحرير المرأة المسلمة عن قضية تحرير الوطن المسلم ، وفصل قضية الظلم الواقع عليها عن قضية الظلم الواقع على الرجل المسلم - تجزئة للقضية الواحدة من أجل أن تتفتت في مسارات متباينة متعارضة ، بل ومتصارعة ، إذ لم يقف الأمر عند الفصل ، بل تعداه إلى أن جعلت المرأة المسلمة تقف خصماً أمام الرجل المسلم وأمام الوطن المسلم ، تقف خصماً ضد شريعتها : تمتلئ رعباً وهلعاً كلما قيل لها: هناك مَن يطالب بتطبيق حكم شريعتك ، وتنفرج أساريرها فرحة بانتصار انهزامي كلما خرجت من النظم العلمانية بقانون خائب للأحوال الشخصية ، مستلهم من قوانين الغرب المغتصب لبلادها ، المهيمن على مقدرات أهلها ، المستذل لناسها ، المقيد لحرياتهم ، والواقف عقبة في طريق تحررهم واستقلالهم ، راجية - في بلاهة واستخذاء - العدل من أيدي الجناة ، لاجئة إلى السجان والجلاد ؛ لكسر قيدها ، وعتق رقبتها ! وقد استمر - فعلاً - الالتواء بقضية "تحرير المرأة المسلمة" ، فتحول من قضية للتحرير من عبودية الظلم والجهل ، ومطلب للانبعاث من حقوقها الشرعية في التعلم والإنسانية - التي كفلها لها الإسلام - إلى حركة تنحرف إلى المطالبة بنزع الحجاب ، وحملة للسفور ، وتحقيق ذلك ، مع كسر متواصل دؤوب لأصول وميزان الإسلام في البناء العقلي والنفسي والعصبي للمرأة المسلمة المعاصرة ، حتى وقعت - في النهاية - فريسة بين جاهليتين : جاهلية قديمة تستمد موروثاتها المتخلفة من عقلية قبل الإسلام ، تقوم بوأد البنات ، وجاهلية جديدة غربية تستمد موروثاتها المتخلفة من عقلية مادية تجارية ، ذهبت إلى طرفي نقيض باستغلال أنوثة الأنثى ، واستثمارها في إعلانات تسويق السلع والجذب السياحي والتشويق الفني المحبِّذ لإباحة الأنثى ، وشيوعها ، وتقديمها كأحد أطباق المتعة للسيد "الرجل" ! وكانت النتيجة الطبيعية أن وجدنا - بعد مرور كل تلك السنوات على مطلب تعليم المرأة - غالبية النساء المسلمات ظللن أميات جاهلات مسلوبات ، حتى من معرفتهن بعموميات الإسلام ، التي كانت تلقَّن لهن ، بينما تفشت بينهن - بسرعة البرق - نزعة العري والانسياق السوقي وراء قيم ومفاهيم المرأة الغربية ، التي وُضعت لهن كمثل أعلى ، يحبَّذ اتباعه وتقليده ، فلم تتحرر المرأة المسلمة ، بل وقعت - بشكل أسوأ - في الرق الجاهلي الجديد. غير أن تحولات الوعي ودلالات الواقع تؤكد أنه قد آن الأوان لهذا المرض الطارئ - السفور وملحقاته الذي حطَّ على أدمغتنا ، وأعمى عيوننا ما ينيف على الخمسين عاماً - أن ينقشع ، وأن نبرأ منه ككل باطل مصيره أن نقذف بالحق عليه ، فنزهقه {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً[الإسراء:81]. وطُوبى لمَن تنزع عنها غلالة الردة الرجعية ، وتعود من اغترابها وغُربتها ، تأتي اليوم وغداً بالحجاب ، ومعها العلم والوعي والعمل والحرية بإذن الله ، ووفق شريعته .