يعد طارق رمضان من الشخصيات المثيرة للجدل في الغرب. فهو حفيد حسن البنا، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" - التي خرجت من عباءتها- جميع المنظمات الأصولية المتطرفة، وهو يقيم حالياً في العاصمة السويسرية جنيف. والمعضلة الرئيسية التي يواجهها، هي كيفية تجسير الفجوة القائمة بين قيم ومبادئ الأصولية المتطرفة وقيم ومبادئ الديمقراطية الليبرالية التي ينعم بمزاياها وفوائدها في أوروبا. فما الذي يمكن لطارق رمضان أن يقوله عن هذا التناقض الرهيب؟ لعلنا نمسك بطرف من الإجابة في كتاباته وفيما سجله من أشرطة صوتية وخطب، حاول فيها جاهداً أن يتمثل كلتا الحالتين: حالة إصلاحي يعمد إلي التأويل المرن وغير المتشدد لنصوص الإسلام من جهة، وحالة أصولي سلفي يأخذ الحياة والأشياء كما هي وكما عاشها المسلمون الأوائل في فجر الإسلام من جهة أخري. ولكن المشكلة التي يواجهها رمضان والكثيرون غيره ممن يقيمون في المجتمعات الغربية الأوروبية، أن النتيجة التي يحصدونها ليست شيئاً آخر سوي "صراع ثقافات" خاص بهم وحدهم دون غيرهم. ذلك أنهم كثيراً ما يتحدثون بلسانين ولغتين، يتجه كلاهما إلي جمهور مختلف عن الآخر، مما يعني ازدواجية الخطاب واللسان الواحد! ولكي لا نحمل علي رمضان جزافاً، فلنستمع إلي ما يقوله هو أصالة عن نفسه. فهو لا يتردد ولا يكف عن التلميح إلي كونه "حامل رسالة إلهية" وذلك بكثرة تكراره القول "إنه ووفقاً لنصوص الحديث النبوي الشريف، فلابد من أن يظهر كل مائة عام، مصلح يكلف بتجديد فهم المسلمين لعقيدتهم". ولكن المشكلة أن طارق رمضان حينما يتحدث عن رسالته الإصلاحية الجديدة للإسلام، فإن خطابه يبدو أشد إرباكاً والتباساً من أن يكون مبيناً وواضحاً فيما يقول. ففي مقابلة له في شهر نوفمبر من عام 2003، عبر القناة العربية لإذاعة "بور إف إم" الفرنسية في باريس، قال رمضان إن "هناك تياراً إصلاحياً عقلانياً، وآخر سلفياً يحاول الإبقاء علي تمسكه بأصول الدين. وإني إلي هذا التيار الأخير أنتمي". لكنه ما إن تعرض لهجوم عاصف داخل مؤتمر منظمة "اليونسكو" الذي عقد في فبراير من عام 2004، وكان مهاجمه الكاتب والقيادي الإسلامي الفرنسي غالب بن شيخ وهو من تيار الإصلاحيين متهماً إياه بالسلفية، حتي بادر إلي نفي التهمة عن نفسه، قائلاً "إن السلفي هو من يأخذ الأمور كما هي علي حرفيتها... وإني لست كذلك بأية حال"! أليس ذلك من ازدواجية الخطاب واللسان.. ألسنا بصدد شخص يحاول أن يصير كل شيء ولكل الناس؟ والغريب أن رمضان نفسه يجيب بالإيجاب علي هذا السؤال، مضيفاً إليه سؤالاً آخر مؤداه: أين وجه الغرابة في أن يتحدث المرء بخطابين ولسانين في وقت واحد؟! فهو له من الذرائع والمبررات ما يثير عنده كل هذا الاستنكار. ثم إنه يضع استراتيجيته علي النحو التالي، من خلال تسجيل صوتي له بعنوان "الإسلام والغرب". "إن علي أن أتحدث بطريقة تتلاءم وآذان المستمعين، علي أن أبقي في الوقت ذاته، أميناً للمرجعية الدينية التي أستقي منها ما أقول". ليس ذلك فحسب، بل يشير رمضان إلي مستمعيه بتبني استراتيجية الحذر الصحفي وذلك بقوله: "إنه لمن الواجب علينا أن نعرف كيف نخاطب أولئك الذين لا يشاطروننا التاريخ ولا التجربة نفسها". والأمر الوحيد الذي يمكن استنتاجه هنا، هو أنه يكاد يحث أتباعه علي ممارسة الكذب الصريح. وله في ذلك أيضاً الكثير من المبررات والذرائع. وما أكثر النماذج والأمثلة علي هذه الازدواجية. ففي الثالث من أكتوبر عام 2001، نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مقالاً لطارق رمضان، بدأ فيه بشجب هجمات الحادي عشر من سبتمبر علي الولاياتالمتحدةالأمريكية. غير أنه سرعان ما ذهب إلي إثارة غبار من الشكوك حول الدور المزعوم لأسامة بن لادن ولتنظيم "القاعدة" في تلك الهجمات علي حد قوله مستنداً علي الحجة المشروخة التي يكثر ترديدها عن المستفيد الأول والأخير من وراء الهجمات تلك، نافياً أن يكون بن لادن هو المدبر للعمليات التي تأذي منها المسلمون قبل غيرهم. وكان منطقياً أن يمضي إلي اتهام الولاياتالمتحدة وإسرائيل بتدبير الهجمات، مع العلم بأنه منطق متهافت، نسفه أسامة بن لادن نفسه! ثم إن إدانة رمضان للإرهاب، إنما تناقضها وتفضحها علاقاته بالتنظيمات والشخصيات الإرهابية. منها علي سبيل المثال، إصرار الشرطة الأسبانية علي أن لرمضان علاقة وطيدة بأحمد إبراهيم، وهو أحد العناصر القيادية في تنظيم "القاعدة"، وقد تم توقيفه في أسبانيا. وبالمثل عندما زار أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم "القاعدة" جنيف في أغسطس من عام 1991، بادر طارق رمضان إلي تنسيق مؤتمر علي شرفه، وكان من بين حضوره الشيخ عمر عبدالرحمن، المتهم بتدبير الهجمات علي مركز التجارة العالمي في عام 1993. وعلي الرغم من اعتراف رمضان بأن جده حسن البنا قد دعا إلي الجهاد فعلاً، إلا أنه أوضح أن تلك الدعوة إنما كانت تقتصر علي ممارسة "الدفاع الشرعي" أو في "الكفاح ضد البطش" وحدهما. وفي كتابه "تيارات في الفكر الإسلامي الحديث" كتب طارق رمضان ما معناه أن "حركة الإخوان المسلمين لا تلجأ إلي العنف إلا بوصفه خياراً أخيراً، ولا تستخدمه إلا عندما تصل بأعضائها القناعة إلي أنه سيعينهم علي ممارسة عقيدتهم وتحقيق وحدتهم كمسلمين". إذن فلا غضاضة في العنف.. أليس كذلك؟ وفي بعض كتاباته الأخيرة، أوحي رمضان بأنه يدعو المسلمين الفرنسيين إلي إعطاء وزن مكافئ لكونهم مسلمين وكونهم مواطنين فرنسيين. لكنه سرعان ما فرق بين الانتماء للعقيدة والانتماء للوطن، مبيناًً ما أسماه بالنظرة الكلية الشاملة للحياة، حين يتعامل المرء مع نفسه كمسلم، في حين لا يتجاوز كون الإنسان فرنسياً، حدود ممارسته لدوره وحقوقه بصفته مواطناً فرنسياً لا أكثر. وبعد فهو يبلغ ذروة تناقضه وازدواجيته، بدعوته الأخيرة لمسلمي أوروبا ل "أسلمة" المجتمعات التي هاجروا إليها، بدلاً من التكيف والتأقلم علي نمط حياتها! فما الذي يجنيه مسلمو أوروبا، سوي انعدام الثقة بهم إن فعلوا؟