إن أحداً لا يماري في أن المرأة المسلمة في العالم - وفي مصر - كانت قبل وعند مطلع القرن العشرين ، ترسف في أغلال تراكمات السنوات الطويلة من الإهمال والجهل والحرمان من حقوقها الشرعية ، التي كفلها لها الإسلام في التعلم والدراسة واختيار الزوج .. الخ ، وكانت في إطار الظلم العام ، والتآمر الذي كان واقعاً على المواطن المسلم على مساحة الوطن الإسلامي - كانت تعاني ظلماً مضاعفاً ، وتتهدد بتآمر أخطر ، وكان بعض علماء الدين التقليديين قد ركنوا إلى قواقع ، هربوا إليها ، منسلخين من مسئوليتهم الإسلامية الجوهرية في ريادة الأمة ، والاضطلاع بحمل متطلباتها السياسية والاجتماعية والثقافية ، في الوقت الذي لم تأخذ قضية تحرير المرأة المسلمة شيئاً يُذكر من اهتمام الطليعيين من علماء الشريعة ، فكان حظ المرأة المسلمة من الالتفات - إسلامياً - لمحنة ظلمها الاجتماعي ، الذي أعادها إلى عذابات موروثات من العقلية الجاهلية قبل الإسلام ، التي يسودُّ وجهها كلما بُشِّرت بالأنثى ، فتلجأ إلى وأْدها ، كان حظ المرأة المسلمة ترديداً مبتوراً للآية الكريمة : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّج الجاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً[الأحزاب:33] ، مع إغفال الآية الملحقة : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خبِيراً[الأحزاب:34] ، مع ما تعطيه هذه الآية الكريمة من منهج قرآني مرسوم لمهمة المرأة المسلمة ، التي أُمرت من قِبَل القرآن بالتزام بيتها - لا لكي تجلس ، كما كان يحدث لقرون طويلة ، في فراغ أو زحام من الجهل والتفاهة واللافاعليةپ- ولكن لتأدية عديد من المهمات لإعدادها كادراً إسلامياً ، لها موقعها الأساسي في المجتمع الإسلامي منها : أولاً : المهمات التعبُّدية : رياضة لجسمها وروحها {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً[الأحزاب:33] . ثانياً : المهمات التعليمية : بناءً لعقلها وثقافتها ووعيها ، ومن ثم فاعليتها في جسم المجتمع الإسلامي : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خبِيراً[الأحزاب:34] ، وعند كلمة "الحكمة" تنبجس - أمامنا - المئات من عيون المعرفة والخبرات ، وأبواب توظيفها ، وتتشكَّل أمامنا - تربوياً وعلمياً وثقافياً - تلك المرأة المسلمة ، كما يرسمها القرآن الكريم ، ويريدها الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - ونرى بعين الرؤية الإسلامية : امرأة نظيفة ، نشطة ، جادة ، لها زيها المتميز عن الجاهلية وعن الكتابية {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً[الأحزاب:59] ، تغض بصرها ، لكنها لا تخضع بالقول ، فهي قوية نابهة ، تدربت إسلامياً ؛ لتعرف الفرق بين التهذيب والضعف ، الذي يثير الطمع ، وهي متفقهة في دينها ، تعرف كتابها ، وتوجيهات رسولها - صلى الله عليه وسلم - وتتلقى من منابعهما "الحكمة" ، التي تربي وعيها ، كذلك لتتعرف على إمام زمانها ، الذي عليها أن تبايعه ، وتتبعه نصرة لله والرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي امرأة قارئة ، كاتبة ، متأملة ، مفكرة ، مستنبطة ، مستوعبة ، تعرف تفاصيل قوانين شريعتها وفقهها ، كما تعرف أصول حكومتها ، وتدرك كيف يكون الحاكم العادل ، ومتى يصير - بالمفهوم الإسلامي - جائراً ، فتُلزم ، وتؤمر - مع مجتمعها المسلم - بتقويمه ونصحه ، أو مجاهدته. هي نصف متزامل مع الرجل المسلم في حشد بديع ، يأتي به القرآن صفاً من ضياء وعبق المسك ، كما ورد في الآية الكريمة : {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً[الأحزاب:35]. هذه الصورة الكريمة الناصعة للمرأة المسلمة - كما حدد معالمها القرآن الكريم - طُمست وتلاشت (إلا في حالات استثنائية نادرة) عبر القرون التي اتخذ فيها المسلمون {هَذَا القُرْآنَ مَهْجوراً[الفرقان:30] ، فتحولت المرأة المسلمة إلى كائن جاهل خامل ، متخلف الحس والإدراك ، فاقد الوعي ، منكمش في تواجد باهت على هامش المجتمع ، وكان لا بد أن يؤدي هذا الطمس والجور - على قانون الله - إلى سرقة مطلب "تحرير المرأة" من منطلقاته وتصوراته الإسلامية ، بعد أن تقاعس علماء المسلمين عن أن يكونوا أول مَن يقود الحملة لمحو أمية المرأة ، والدفاع عن حقوقها الشرعية ، وإعادتها إلى ملامح ومعالم صورتها ، كما قررها القرآن ؛ لتنبعث حرة عزيزة من أرضيتها العقائدية ، وتراثها الثقافي والفكري. وهكذا - وفي غياب المبادرة الإسلامية للتصويب - وقعت قضية تحرير المرأة المسلمة في أيدي غير الأمناء ، ممن لا ينطلقون من أرضية أو تصوُّر إسلامي ، وتقدم كل مَن هب ودب ؛ ليدلي بدلوه في مسألة تحرير المرأة المسلمة: ما بين صديق جاهل ، وعدو ماكر ، استطاع في نهاية الأمر - بعدائه ومكره - أن يكتِّل الصديق الجاهل إلى معسكره المعادي للإسلام ، ويستثمر جهله لضرب معاقل المسلمات ، وهتك سترهن ، كجزء من المخطط الأسود الشامل على كل الأصعدة لضرب الإسلام والمسلمين ، وإلغاء شريعتهم - لا سمح الله - حيلولة ، ومنعاً لانبعاثهم الحتمي رحمة للعالمين ، ولو كره الكافرون. وفي مولد هذا الشعار البَرَّاق - "تحرير المرأة" - انفسح المجال أمام الرواد العظام من "تجار الشنطة الثقافية" ، القادمين من أوروبا ومن أمريكا أخيراً - ليصولوا ويجولوا ، محمَّلين بأشكال وأنواع بضاعة الثقافة الغربية ، بموروثاتها الجاهلية الوثنية الإغريقية ، ومعها نماذج المرأة الأوروبية والأمريكية ، التي كانت قد نالت حريتها حديثاً ، متشكلة من رصيد فكري واجتماعي وديني خاص بها وحدها ، لا تنتمي إليه ، ولا يمكن أن تنتمي إليه المرأة المسلمة بحال. وككل الباعة الجائلين ، كانت أصوات "تجار الشنطة الثقافية" - هؤلاء - أعلى الأصوات ، وأكثرها صخباً ، وككل الباعة الجائلين - كذلك - كانوا يعرفون الكلمة التي تقال لتبهر وتجتذب ، والبضاعة التي تُدس لتسلب ، ونعجب الآن - ونحن ننظر إليهم على بُعد ما ينيف على النصف قرن - كم كان واضحاً كونهم مندوبي مبيعات شامخي الأنوف مع مواطنيهم ، مهدوري الكرامة للرؤوس الأوروبية الغربية الداهية ، من صهاينة وصليبيين وماسون ، وكم كان واضحاً - على الرغم من الحذلقة - تشتُّتهم الفكري ، وسطحيتهم - كنقال ببغاويين - بنداءاتهم الفجة ، التي لا تخلو من وقاحة وسوقية ، لهجر التأصيل من الذات لحساب التبعية الفكرية لغرب يمقتنا ، ديناً وجنساً وتاريخاً ، ويمارس معنا فوقية وغطرسة واحتقاراً ، وهو يحضر الأنشوطة وراء الأنشوطة ؛ لتلتف حول أعناقنا ، جاذبة جباهنا عند أقدامه: جباهنا نحن المسلمين أصحاب العزة من الله : {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[المنافقون:8].