على الرغم من كونه - عندما يخطب- يختلف عمَّن سبقوه إلى هذا المنصبِ مُنْذُ محمد نجيب وحتى قدومِهِ رئيسًا للكنانة، بل ويتفوق عليهم عنايةً ودقَّةً في اختيار مفرداتِهِ، إذ تتجلَّى في كلماتهِ اللغةُ بأبعادها الثلاثة: الصوت والنحو والدلالة، ولهذه الدقة التي تنأى بنفسها عن الاعتباطيةِ نزاهةً وإحساسًا عميقًا بالمسئوليةِ ما يجعل مقاربةَ خِطابِهِ تتطلبُ ممن يقوم بعمليةِ المقاربة هذه وما يتبعها من عمليات التفسير والتحليل والإحالةِ أن يتمثَّلَ لها رولان بارت حاملًا عُدته البنيويةَ وجاك دريدا ومعه آلاف من رسائل التفكيكية يحملها أمانةً إلى هذا الرجل الذي يختار مفرداتِهِ بعنايةٍ فائقةٍ مستجيبًا لحسٍّ فطريٍّ قويمٍ معجونٍ في ماءِ لغةِ القرآنِ والسنةِ، و بيرس وسوسير مُحَمَّلَيْنِ بملايينَ من علاماتِ الدهشةِ حولَ عمليةِ المزجِ التلقائي السليقي في كلماته بين اللغةِ بوصفها ظاهرةً سيميائيةً تعرفُ كيفَ تستثمر علاماتِها غيرَ اللسانيةِ واللغة بوصفها ظاهرةً لسانيةً في الآن نفسه، في لُعْبَةٍ جميلةٍ تُمَارسُ بالفطرة والتلقائية والبساطةِ، وتراوحُ بين طرفي الظاهرة اللغوية: النَّص والنَّصِ الموازي.. وعلى الرغمِ من كون عمليةِ التَمَثُلِ تلك تُعَدُ من أبجديات مقاربةِ الخطابِ في نظرِ المشتغلين به والمنشغلين به أيضًا، إلا أننا نجد الذين يتَصدَّوْنَ لتحليل خطابات الرئيس الدكتور محمد مرسي خاصةً الخطابات الأولى منها التي جاءت عقب فوزه بمقعد الرئاسة يجهلون موقع النحو في منظومة القراءةِ والفهمِ والتأويلِ والتفسيرِ، فيسيئون للرجلِ وللخطاب بل ويسيئون في الآن نفسهِ للمشتغلين بالخطابِ وعشاق الكلمة، هذا ناهيك عن جهلهم بأبجديات المدارس النقدية: القديمة منها والحديثة وما تفرضه تلك المدارس من ضرورة المراوحة في تفسير وتحليل مثل هذه الخطابات الحساسة على وجه التحديد بين المقاربات النَّصية التي تستلهم المنهجَ البنيوي والتفكيكي والمقاربات الخارج نصية التي تبحث في العلاقات بين ما هو داخل النص وما هو خارجه – ودور كل ذلك في تأويل الخطاب وفهمه وتفسيره. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كم من الكلمات التي كانت نقاطَ قوةٍ في خطابِ السيد الرئيس في التحرير بعد فوزه برئاسة الجمهورية (مثل قوله أهلي وعشيرتي التي جاءت بعد قوله أهل مصر في واحدةٍ من أروع الحالات التي يتجلَّى فيها البَدَلُ في بناء الخطاب وتفسيره في آنٍ) – كم من مثل هذه الكلمات سِيئَ تفسيرها رغم بساطتها وعبقريتها بسبب العجمة الغريبة في لسان من تصدوا لتحليل الخطاب الرئاسي، أولئك الذين صنعتهم دولة الافتراض الذين ظنوا أنفسهم أهل فكرٍ وأهلَ لغةٍ وأهلَ خطابٍ وأهلَ دبلوماسيةٍ، فأُطلِقَ على بعضهم مسميات من نوع: (الإعلامي الكبير) و(المحلل الكبير) و(الخبير الإعلامي) على الرغم من كون العديدِ منهم لديهِ مشكلاتٌ معقدةٌ عصيةٌ على الترويضِ في النطق، أبسطها الجهل المذري بمعرفة خريطة حروف اللغة العربية داخل الجهاز الصوتي البشري - فالقاف تخرج من مخرج الكاف تفخمُ مثلها كأنْ لا فرق بينهما في شيء والثاء تنطق كما لو كانت سينًا. ولو أراد أحد أن يجري دراسةً علميةً على هذه الظاهرة / الكارثة لدى إعلاميينا الأشاوس لكفاه وائل الإبراشي أو عمرو أديب أو إبراهيم عيسى أو أيةُ حسناء من حسناواتِ الشاشةِ المصريةِ نماذجَ صارخةً على العَتَهِ اللغوي/ الفكري / الثقافي المزمن. لا أنسى في هذا السياق تلك الحلقة التي غاظتني كثيرًا والتي قدمها أحدهم على شاشات التليفزيون المصري مستضيفًا فيها أحد السفراء المجاز ليحللَ الخطاب الأول للرئيس الدكتور مرسي في التحرير، إذ تراءى لي (أي ذلك المحلل) وكأنَّهُ عورةٌ كبيرةٌ في جبين اللغة بوصفها أداةً للتواصل ناهيك عن كونها أداةً للمقاربةِ والتحليل. وعلى الرغم من ذلك يصر الإعلامي المجاز الذي استضاف السفير المجاز على استمراء حالة الوهم الفكري والثقافي اللتين تلبستا كليهما؛ فيطرحُ أسئلَتَهُ عليه مستخدمًا صيغته المستفزة: سعادة السفير كيف ترى خطاب الرئيس؟ ما يجعل العاقل يتساءلُ هل يسأل السيد المذيع ضيفه عجبًا ودهشةً عن كيف يرى الأعمى خطاب البصير؟ أم أنَّ حالةِ الوهم الفكري التي أشرت إليها سابقًا هي التي جعلت السيد المحاور يظن حقًّا أنَّهُ محاورٌ بالفعل، وجعلت سعادة السفير يظن في الوقت نفسه أنه حقًّا متمرس في تفسير الخطاب وتحليله؟.. إن الوحلَ الذي ابتليتْ بِهِ العملية الانتقالية في مصر ترابَه وطينَهُ صناعةٌ إعلاميةٌ بامتياز بسبب مثل هؤلاء من المحللين والإعلاميين المجاز وقادة الدوائر الإعلامية الافتراض الذين لا يفرق معظمهم بين اللام الشمسية والقمرية حتى أصبح عدد منهم - مخافةَ الحرج - يجزئ الكلمةَ المعرفةَ إلى كلمتين خوفًا من الوقوعِ في الحرج - ( أل التعريف).. ثم بقية الكلمة – ما يجعلنا نتمنَّى على القائمين على الأمر في مصر المحروسة آنيًا ومستقبلًا أن يعيدوا النَّظرَ في منهج كليةِ الإعلامِ وفي معايير اختيار من يتصدونَ للعملِ في دائرة الإعلام برمتها وفيمن يقودون مسيرة هذا القطاع الخطير من قطاعات الدولة فلا يُجاز تعيين أي قيادة إعلامية قبل التأكد من كونها تحمل أوراق اعتمادها مذيلةً بتوقيع الجرجاني والمعري والجاحظ والمنفلوطى وحقي والعقاد وسوسير وفوكو وبيرس ودريدا وبارت....... وكل من لَمِسَ منهم التاريخُ علمًا باللغة وبالخطاب من القدماء والمحدثين، من الشرق ومن الغرب... والله المستعان.