كان الإعلام أمس الأول متوترًا وعصبيًا بصورة ملحوظة، وحاول أن يصدر هذا التوتر والفزع إلى ملايين المواطنين الذين لا يدركون ما الذى يحدث بالضبط، ويبدو أن "الفلول" الذين حشدوا بقوة أمس الأول، حتى أن أكثر من نصف الميدان وللمرة الأولى منذ الثورة كان فلوليًا بامتياز، أعطى لهم إشارات بأنها مليونية حاسمة، وهو ما اكتشفوا خواءه مع مرور الوقت، فقد قامت قيادات سابقة بالحزب الوطنى وبرلمانيون سابقون بدور مقاولى الأنفار لتوريد فقراء وبسطاء وبلطجية، وقد قابلت بنفسى شهود عيان ووصلتنى اتصالات عديدة من مدن قريبة من القاهرة تذكر بالأسماء والوقائع والأماكن المحددة للدفع، وكان مؤسفًا أن تمارس حملة السيد عمرو موسى نفس طريقة الفلول فى "تأجير" متظاهرين، كان الميدان أمس الأول مقسمًا على ثلاثة أقسام، قسم من شباب الثورة وائتلافاتها التى شاركت أو ساهمت بالفعل فى ثورة يناير، وقسم من قوى سياسية تعمل لحسابها الخاص وتوظف الاحتشاد لأجندة سياسية لا صلة لها بالإعلان الدستورى الأخير ولا يخصها تفاصيله بقدر ما يخصها توجيه ضربة سياسية متصورة للرئيس مرسى وتياره، والقسم الثالث هم الفلول وأنصار النظام القديم بوضوح كامل، وهذا التداخل بكل تأكيد أضعف الدافع الأخلاقى لفعل ميدان التحرير، ولعل هذا ما عكس حالة الإحباط والتى وصلت إلى ما يشبه هستيريا فى بعض القنوات الفضائية. وجود قوى ثورية حقيقية فى الميدان أمس الأول حجم من قدرات الفلول على استخدام العنف والبلطجة، كما أن امتناع التيار الإسلامى عن التظاهر حرم الفلول من إثارة مواجهات واسعة فى القاهرة والمحافظات، وفشلت مخططات سحب التظاهرة إلى العنف، ولم تسجل حالات عنف مقلقة سوى فى مدينة المحلة، وأما غير ذلك فهى حالات محدودة فى عنفها وفى تأثيرها كما حدث فى المنصورة والإسكندرية، وفى النهاية نجحت حركة الاحتجاج فى الاحتفاظ بسلميتها بشكل عام، وفشل الفلول فى استثمارها، كما فشل الإعلام المصرى فى صناعة أجواء رعب وتحريض على العنف، وهو بنسبة 90% إعلام فلولى النشأة والتمويل والرؤية، كما أن قناة العربية واصلت تحريضها على العنف فى مصر لدرجة أن مذيعة الصباح واجهت ضيفها فى القاهرة بكل إحباط وتحريض بسؤال بالغ الغرابة: إلى متى يظل المتظاهرون يحتفظون بضبط النفس؟! مليونية الثلاثاء كانت ناجحة كعمل سياسى وهذا مهم لعافية الحراك السياسى المصرى، رغم رفضى لأهدافها ورؤيتها بالكامل، إلا أن فاعلية الحراك الشعبى تظل هى السند الحقيقى للديمقراطية والحماية التى تملكها الأمة على الدوام للاحتجاج فى ظل غياب برلمان منتخب، فالمعارضة القوية تعنى ديمقراطية جادة، طالما احترم الجميع قيم التعددية ووجود الرأى الآخر، بدون إقصاء أو رغبة فى الإملاء أو محاولة فرض الإرادة السياسية بأساليب وممارسات غير سلمية وغير ديمقراطية، فى المقابل لا أعتقد أن هذا الاحتجاج يمكن أن يسفر عن رجوع رئيس الجمهورية عن قراره، لأنه ببساطة قرار مصيرى بالنسبة لمصر، وحاسم لتحقيق النقلة الأخيرة للديمقراطية، ويوقف مسلسل الفوضى والإرباك الذى يصر البعض على إدخال الأمة فى نفقه المظلم نكاية فى الرئيس ورغبة فى إفشاله حتى ولو على حساب مصالح الوطن والشعب، وإذا كان معارضوه قد حشدوا مائة ألف أو أكثر أو أقل، فإنهم يدركون أن مؤيدى الرئيس يمكنهم أن يحشدوا مليونيات حقيقية فى كل ميادين مصر بأضعاف ما حشد معارضوه، كما أن الحديث عن خرق الدستور والاعتداء على القضاء محض تراشق سياسى، لأن جهابذة القانون الدستورى أيدوا الرئيس فى قراره وأوضحوا مشروعيته الدستورية الكاملة، كما أن غالبية من القضاة أيضًا أيدوا قرارات الرئيس ورفضوا الممارسات التى يفتعلها البعض ضده، فلا يليق أن يحتكر أحد الحديث باسم الدستور والقضاء، فنحن أمام اختلاف فى الاجتهاد السياسى بشكل مباشر وواضح، والقضاة الذين دخلوا فى هذا الصراع دخلوه من باب السياسة بامتياز، كما يكون من تزييف الحقيقة محاولة تصوير الأمر على أنه خلاف بين حزب الحرية والعدالة والقوى المدنية، فكثيرون جدًا ممن يؤيدون الرئيس فى إعلانه الأخير لا صلة لهم بالإخوان ولا بالحرية والعدالة، وإنما هم أحزاب أو نشطاء أو أكاديميون أو إعلاميون أو قضاة أو حقوقيون مستقلون يرون فى هذا الإعلان إنقاذًا حقيقيًا للوطن فى تلك اللحظة الفارقة. [email protected]