لم أكن في شبابي من الناشطين سياسيا ، وكانت صداقاتي في الجامعة كلها مع شباب لا علاقة لهم بالسياسة. كما كان تديني متواضعا لا يتجاوز الصلوات الخمس يوميا . صحيح أني كنت مهتما بالشأن السياسي ، أساسا منذ كارثة 1967، وكنت أداوم على قراءة (الأهرام) ، وأحيانا مقالات محمد حسنين هيكل . ولكني لم أكن أتصور يوما أن أكتب المقال السياسي . كانت نظرتي في الجامعة لشباب التيار الإسلامي نظرة مليئة بالريبة والخوف. أما اليوم فقد أصبح كل همي هو إحتضان طلبة هذا التيار لكي أدفع عنهم شرور أمن الدولة الذي لا يتوقف عن مراقبتهم والتربص بهم . كانت نقطة التحول في حياتي تسيسا وتدينا هي سفري إلى الولاياتالمتحدة. فقد أحسست بقيمة ديني وازداد تمسكي به عندما شاهدت ما وصل إليه الأمريكيون من تفسخ وإنحلال. والطريف أن كل ما عاد عليّ من خير في الولاياتالمتحدة يعود الفضل فيه إلى الرئيس السادات رحمه الله ومعاهدة السلام التي وقعها مع إسرائيل . وسبحان الله الذي يدبر الأمور، فتأتي الأقدار بمالا يتوقعه المرء. فلولا هذه المعاهدة ما كان سفري إلى أميركا ولولاها لما كان نشاطي مع إتحاد الطلبة المسلمين ، ولولاها ما كانت قناعتي التي ترسخت في يقيني باستحالة أن يتعايش الكيان الصهيوني سلما مع العرب والمسلمين. بعد تخرجي من الجامعة ، بحثت عن وسيلة ما للسفر والدراسة في أميركا ، وهو مالم يكن سهلا . ثم قدمت هيئة فولبرايت مجموعة من "منح السلام" بمناسبة توقيع معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل ، وحيث أني كنت متفوقا في الجامعة ، تقدمت بأوراقي إلى هذه المنحة فكنت أحد الفائزين القلائل في أول دفعة لها. في هذا الوقت كنت مؤيدا لاتفاق السلام مع إسرائيل. وكان تأييدي مدفوعا أساسا بتأثري بشخصية السادات الذي كنت وما أزال معجبا بها . كانت المنحة لمدة عامين فقط ولكنها مكنتني بعد حصولي على درجة الماجستير من تأمين منحة أخرى من جامعة بنسلفانيا التي كنت أدرس بها (وهي الجامعة التي حصل منها أحمد زويل على الدكتوراه) لاستكمال دراسة الدكتوراه. وكما قلت فقد كان في رحلة أميركا خيرا كثيرا لي ، حيث جرت خلالها ثلاث أحداث رهيبة فتحت عيني على حجم الهوان الذي وصلنا إليه كعرب ومسلمين : كان أولها الغزو السوفيتي الوحشي لأفغانستان ، ثم جاءت مجازر سوريا في أوائل الثمانينات ، وبالذات مجزرة حماة الكبرى (سبقتها مجزرة أصغر) التي مهدت لها قوات "سرايا الدفاع" بقيادة رفعت الأسد بحصار المدينة واستباحتها قصفا وتدميرا طوال شهر فبراير 1982، حتى وقعت المجزرة التي سقط فيها ما يقارب الخمسة وثلاثين ألف قتيل ، والتي استمعنا لشهودها الأحياء على شريط فيديو تم تهريبة إلى أميركا ، فسمعنا كيف كانت العيون تفقأ والنساء تغتصب والحوامل تبقر بطونهن .. إلخ . وقد هزتني هذه المأساة بعمق ، وزرعت في نفسي كراهية شديدة للطغاة العرب بأنواعهم . ثم كان الحدث الثالث ، وهو غزو إسرائيل للبنان وحصار بيروت ومجزرة صابرا وشاتيلا. وقد أدى هذا الحدث إلى قلب شامل لأفكاري فيما يخص إمكانية تحقيق سلام مع إسرائيل . وتوصلت إلى قناعة راسخة منذ ما جرى في لبنان (وهي القناعة التي زادتها رسوخا الإنتفاضتين الفلسطينيتين) أن هذا الكيان الصهيوني يستحيل التعايش معه ليس لأننا نحن الذين نرفض التعايش معه ، وإنما لأنه لايستطيع أن يتعايش مع قوم لا ينظر إليهم إلا بكونهم عبيدا له. قناعتي الراسخة هي أننا بصدد صراع وجود لن ينتهي إلا بانتصار طرف على الآخر وسحق إرادته. ولهذا فإني على الرغم من مقاومتي للتطبيع ورفضي لسياسة نظام حكم مبارك أمام شارون ، فإني أعرف كيف يفكر المطبعون لأني ببساطة مررت بهذه المرحلة في حياتي. والفارق بيني وبينهم هو أني لم أكابر في الحقيقة عندما شاهدتها أمامي جلية. أما هم فقد جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. وعلى الرغم من رفضي لاتفاقية السلام الفردي مع إسرائيل ، فإني أتفهم دوافع السادات لزيارة القدس وتوقيع الاتفاق . فقد كان الرجل رحمه الله واقعا تحت ضغوط داخلية وخارجية هائلة ، ولم يجد من العرب إلا اللامبالاة والاستخفاف به. ولو كانت قوى المعارضة المصرية التي أنهكت السادات تعلم ما سيأتي من بعده ، ما أظن أنها كانت لتعارضه بهذه الشراسة التي تركته فريسة لبيجين وحلفائه في واشنطن . [email protected]