على مدار ربع قرن من الزمان وأنا أعيش بشكل شبه دائم في بلاد الأناضول (تركيا) وفي نفس الوقت أتردد دومًا على أرض الكنانة (مصر) لكونها وطني الأم. خلال هذه المدة الزمنية المتواكبة مع حكم الرئيس المخلوع، كنت أرى وأسمع، بل وأعايش تحول مصر إلى دولة عصابات في كل مكان. هذه عصابة تسرق المحروقات المدعومة للشعب، وأخرى تسرق غزول القطن المدعومة للشعب أيضًا، وثالثة تسرق الجمارك، ورابعة تتلاعب في بورصة الأوراق المالية، وخامسة تبيع وتسرق شركات القطاع العام، وسادسة تسرق الدقيق المدعوم، وسابعة تسرق الكهرباء، وثامنة تسرق أراضي الدولة وتاسعة تتاجر في أكياس الدم الفاسدة، والعد على الجرار. أقول هذا، مقدمًا للقارئ بعض النماذج التي عايشتها شخصيًّا مع بعض العصابات التي ظهرت وترعرت في زمن حسني المخلوع وحكمه الفاسد. عصابات باعت واشترت مقدرات مصر وشعب مصر نفسه، دون وازع ولا ضمير. في وقت لا يزال البعض يردد : آسفين ياريّس! بين عامي 93-1994 طلب مني نسيبي رجل الأعمال التركي، أن أساعده في جلب وشراء غزول القطن المصرية ليستخدمها في مصنعه. تقدمت بطلبات، عبر الفاكس، لمجموعة من الشركات الوطنية المنتجة لغزول القطن، فقدمت تلك الشركات قوائم أسعار تصدير غزول القطن المستندة لتقييمات هيئة أو صندوق دعم الصادرات، قمت بدوري بعرض ما وصلني لشقيق زوجتي الذي أبدى دهشة. قلت له لماذا تندهش؟ إنها أسعار رسمية حكومية، وهذا هو الطريق المضمون والآمن. نظر إلىّ مبتسمًا وطلب من سكرتاريته جلب قوائم أسعار غزول مصرية، تباع بالسوق التركي الداخلي، بسعر أقل مما وصلني.قلت: كيف هذا؟! فكان علىّ أن أذهب لمصر بنفسي، لبحث وتقصي هذا التناقض المثير. زرت عددًا من الشركات والمصانع، وتحدثت مع رؤساء شركات وأعضاء مجالسها حول أسعار التصدير للغزول وخيوط البوليستر وجدت نفس الأسعار المرتفعة وغير شاملة لمصروفات الشحن البحري ورسوم الجمارك. في نفس تلك الزيارات التي دامت خلال عامين، تعثرت قدماي في أشخاص يتاجرون في غزول القطن ويبيعونها للخارج. تبيّن لي وقتها، أن بعض أصحاب مصانع النسيج، يقوم ببيع جزء من حصصهم المدعمة، للسوق السوداء. وأن عصابة سرقة غزول القطن وبيعها للخارج، تتعامل أيضًا مع رؤساء الشركات الحكومية المنتجة، بحيث تجمع الغزول المدعمة والموجهة للإنتاج الداخلي للشعب المسكين، وتصدرها بطرق ملتوية للخارج. ولتبسيط الأمر على القارئ، دون الدخول في تفاصيل عمل عصابة غزول القطن والبوليستر. أقول: إن مصانع الدولة تسلم مصانع النسيج كيلو الغزل، بعشرة جنيهات، لكن نفس الكيلو يباع للخارج بعشرين جنيهًا، فتقوم العصابة بجمع وشراء الكيلو من المصانع الصغيرة أو حتى الكبيرة بسعر 14 جنيهًا، ثم تصدره للخارج ب 16 جنيهًا. فيباع الكيلو في سوق تركيا أو غيرها من دول العالم بسعر 18 جنيهًا أو يزيد. ولكن حين تطلب أنت سعر التصدير، تكون أمام سعر 20 جنيهًا، بدون مصروفات الشحن والجمرك، يعني يتحول السعر الرسمي للغزل إلى 25 جنيهًا تقريبًا. هنا،يفضل المصنع التركي، شراء نفس الغزول المصرية المتاحة بالسوق الحر التركي، مبتعدًا عن الاستيراد الرسمي، من مصانع القطاع العام المصرية. فلماذا يدفع أكثر والمنتج نفسه وصل إلى قدميه أرخص؟. قبل أيام قليلة، اتصل بي من القاهرة شخص لا أعرفه، طلب مني أن أجد مستوردًا تركيًّا للبنزين والسولار المصري بسعر 10 جنيهات للتر. قلت له: أنا لا أعمل بالتجارة. قال: ستحصل على عمولة كويّسة، والحاويات جاهزة بميناء الإسكندرية، ولدينا استعداد لتصدير 100- 150 طنًا كل عشرة أيام. حاولت أفهم كيف ستصدر مصر محروقات والسوق الداخلي يعاني من نقص حاد؟! فلمّا سألته عن مصدر هذه المحروقات، قال: بعض أصحاب محطات البنزين،هم الذين يجمعون هذه الكميات ويبيعونها للخارج. آه.. يعني أنا إذن وجهًا لوجه مع عصابة جديدة، تهرب بنزين وسولار الشعب لتربح هي على حسابه ومشاكله وآلامه وتعطل حياته وتصيبها بالشلل. عزيزي القارئ، لا أريد التجاوز على حقك في فهم ما يترتب على سرقة الغزول والمحروقات، ولذا، لن أخوض في التحليل والتفسير تاركًا أمره لفطنتك. وللحقيقة أقول أيضًا، أن لدي الكثير من الأمثلة الواقعية التي عايشتها، بحكم تواجدي بالخارج، وكشفت لي جانبًا من عصر العصابات. إنهما مثالان فقط، قدمتهما للتذكير بما وصلنا إليه من مفاسد، لا أول ولا آخر لها. أسأل الله - تعالى - أن يعين الرئيس محمد مرسي وحكومته لمواجهة العصابات الكثيرة التي تغذت كثيرًا من دماء شعب مصر وبرعاية نظام حسني وحزبه غير الوطني. تبًّا لهم وللعصر والحكم والحاكم الذي حوّل مصر، كنانة الله في أرضه، إلى مرتع للعصابات المنظمة للجرائم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.