رغم أي تحفظات، فإن ما تشهده مصر الآن يعني أن سنوات الركود السياسي قد انتهت، وأن قطار التغيير مهما كانت المقاومة يتحرك، وأن محاولات الوقوف في وجهه هي محاولات محكوم عليها بالفشل. مساء الأربعاء الماضي افتتح الرئيس مبارك حملته الانتخابية بخطاب شامل. لم تنضم موجات الإذاعة المصرية لنقل الخطاب، ولم يذع على الهواء في تلفزيون الدولة. بل تم التعاقد مع إحدى المحطات التلفزيونية الخاصة لذلك، واكتفى تلفزيون الدولة بنقل بعض فقرات الخطاب بعد ذلك وهو ما سيفعله مع باقي المرشحين.في اليوم التالي كانت الصحف «القومية» تنشر خطاب الرئيس مع أخبار المرشحين الآخرين، ولكن الأهم من ذلك كان هناك إعلان على صفحة كاملة لمرشح الوفد الدكتور نعمان جمعة يرفع شعار «اتخنقنا» ويشير إلى أن الخلاص سيكون مع مرشح الوفد. قبل شهور قليلة، وفي لقاء الرئيس مبارك بعدد من الكتاب والمفكرين طرحت فكرة أن يتقدم الرئيس للانتخابات المقبلة ببرنامج سياسي شامل، ورد الرئيس مبارك بأنه سيدرس الموضوع. لكن البعض في الدوائر الرسمية وفي الإعلام الرسمي كان ملكياً أكثر من الملك، وبدأ في الرد على هذا الطرح البديهي بترديد أن الرئيس لا يحتاج لبرنامج، وأن انجازاته تكفي.. إلخ. خلال الشهور الماضية جرت مياه كثيرة في نهر السياسة المصرية، وتم تعديل الدستور، ورغم الاعتراض الواسع على الطريقة التي تمت بها صياغة التعديلات والشروط التي وضعت للترشيح للرئاسة، فإن واقعا جديد فرض نفسه، وها هو الرئيس مبارك يواجه منافسة في انتخابات الرئاسة، ورغم أن النتيجة قد تكون محسومة مقدما لصالحه لأسباب كثيرة، فإن هناك مناخاً جديداً وآليات جديدة جعلت من المحتم أن يتقدم الرئيس ببرنامج تفصيلي مثله مثل باقي المرشحين، طالبا ثقة الناخب الذي يعرف الجميع أنه يحتاج لجهد حتى ينسى تجارب انتخابية سابقة ويشارك في هذه الانتخابات التي تدعو فصائل سياسية عديدة لمقاطعتها. البرنامج الذي طرحه مبارك يتبني الكثير مما طرحته القوى الوطنية وإن بقي الأمر في إطار العموميات.. ومع ذلك فحالة الطوارئ التي كان يتسم بها الحكم لم تعد كذلك وإن كان المطروح هو: إلغاؤها في حالة إصدار قانون مكافحة الإرهاب. والدستور الذي كان ممنوعاً الحديث عن تعديله أصبح تعديله أمراً متفقاً عليه، والحديث لم يعد عن واقع وردي بل عن قنابل مؤقتة تهدد المجتمع وتتمثل في البطالة والفساد، والحاجة لتنمية حقيقية وإلى عدالة في توزيع الناتج القومي.الجانب الآخر من الصورة سيعرضه مرشحو المعارضة، وسيجد طريقه للإعلام الرسمي وفقا للقانون، وسوف يركز بالطبع على مسؤولية الحكم الحالي عن المشاكل السياسية والاقتصادية ويطرح نفسه كبديل قادر على التعامل بجدية مع قضايا المجتمع، ويتساءل: ألم تكن السنوات الأربع والعشرين الماضية كافية لتنفيذ أي برامج للحزب الوطني والرئيس مبارك؟ المهم أن هناك الآن جدلا سياسيا واسعا يدور لأول مرة حول برامج محددة تأخذ فرصتها في إعلام الدولة الأساسي. وفي المقابل هناك دعوة لمقاطعة الانتخابات من قيادات سياسية ترى في كل ما يجرى مسرحية لا جدوى منها. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ينجح هذا المناخ في بث الحيوية في شارع سياسي عانى لسنوات طويلة من الجمود؟ وهل انتخابات الرئاسة (بكل الملابسات التي تحيط بها) فرصة لترسيخ ثقافة ديمقراطية غابت طويلا؟ وهل تنجح الحملات الانتخابية بما صاحبها من وعود في إخراج الغالبية الصامتة من صمتها، خاصة أن هذه الوعود تناولت لقمة العيش، وسط ظروف اقتصادية صعبة (الرئيس مبارك وعد بزيادة أجور صغار العاملين في الدولة 100% ولأصحاب الدخول الأعلى 75% وتعهد بالإبقاء على دعم محدودي الدخل)؟ وهل إذا خرجت هذه الأغلبية الصامتة من صمتها ستذهب لتشارك في التصويت أم تستجيب لدعوة بعض الأطراف لمقاطعة التصويت؟ الأسئلة كثيرة والكثير من الإجابات ستظل معلقة حتى يوم الانتخابات، وسيظل مرتبطا بمدى نجاح الحزب الوطني وحكومته على تقديم تجربة جديدة لا يتم فيها تسخير إمكانات الدولة لصالح الحزب، ولا تتدخل الإدارة لحشد الناخبين ودفعهم للتصويت لحزب الحكومة، ويدرك فيها المسؤولون أن أعظم خدمة يقدمونها للرئيس مبارك أن يمتنعوا عن التدخل لصالحه وأن يتركوا الانتخابات تسير كما ينبغي لها، لأن هذا لو حدث فسوف يكون انجاز مبارك الكبير وسوف يعيد الثقة المفقودة بين المواطن وصندوق الانتخاب. والأمر ليس سهلا، وأنصار الفساد والمستفيدون من الأوضاع السابقة سيدافعون عن مواقعهم، وثقافة الديمقراطية مازالت غائبة في الكثير من المواقع.وكما أن هناك انقسامات وخلافات داخل أحزاب وحركات المعارضة في كيفية التعامل مع ما يجرى، فإن هناك انقساما مماثلا داخل الحكم وفي قيادات الحزب وأركان السلطة. لقد أسعدني مثلا أن يتصل بي أحد الوزراء، وكنت قد دعوته للقاء مع الصحافيين لمناقشة بعض القضايا المتعلقة بوزارته التي يتصل عملها بقطاعات واسعة من المواطنين، وكان الرجل يرحب باللقاء ولكنه كان يتحسب من أن ما سيقوله قد يعتبر دعاية لأحد المرشحين للرئاسة، ومن هناك كان الاتفاق على أن يكون الموعد بعد انتخابات الرئاسة. هذا السلوك المسؤول يعبر عن إدراك بأن مرحلة جديدة من العمل الوطني بدأت وأن على الجميع أن يراعى آلياتها. هذا الوعي للأسف الشديد مازال غائبا عن كثير من القيادات يفترض بها أن تكون أكثر موضوعية بحكم أنها ليست جزءا من الحكومة أو الحزب الحاكم، بل هي قيادات لمنظمات مستقلة مثل المنظمات النقابية أو الاتحادات المهنية.. ناهيك بالمؤسسات الدينية التي يفترض فيها أن تبتعد عن الصراعات الحزبية وأن تعلو فوق الخلافات السياسية، ولكنها للأسف الشديد مازالت أسيرة منطق المبايعة الذي لم تعرف غيره، ويبدو أنها لم تعرف غيره حتى يبدل الله أوضاعا بأوضاع! الشيء الأساسي الذي يمكن أن تقدمه هذه الانتخابات هو أن تجرى في أجواء صحية وأن تستعيد ثقة الناس في العملية الانتخابية نفسها، وأن يدرك الإصلاحيون أن جهودهم لم تذهب سدى حتى ولو لم تتحقق أحلامهم، فإن الأبواب الموصدة انفتحت، ليجري الصراع السياسي بعد ذلك على أرضية جديدة.. فلا أحد سيقبل بعد ذلك أن تظل الوعود الانتخابية مجرد وعود بل سيكون من المحتم أن تتحول إلى برامج لها توقيتات وإصلاحات دستورية وسياسية طال تأجيلها، ومواجهات جادة لمشاكل اقتصادية واجتماعية تثقل على الجميع. باختصار.. لا أحد سيقبل أن تكون السنوات المقبلة مجرد امتداد للسنوات الأربع والعشرين الماضية، بل المطلوب أيا كان الرئيس القادم أن نواجه بشجاعة كل المشاكل التي تفاقمت خلال هذه السنوات، وأن ننطلق بلا تأخير في إصلاح شامل يبدأ بالإصلاحات السياسية والدستورية التي تجعل المجتمع أكثر قدرة على تعبئة جهوده من أجل نهضة شاملة تواجه البطالة وتقاتل الفساد وتفتح أبواب المستقبل لأجيال جديدة لن تتحمل الهواء الراكد الذي خيم على الحياة السياسية لسنوات طويلة. التغيير الحقيقي قادم بلا شك، وما يجرى على الساحة في هذه الفترة سوف يجيب عن السؤال الأساسي: هل نحن قادرون على إتمام عملية الإصلاح بالطرق السلمية التي تجنب الوطن هزات عنيفة لها تكلفتها الباهظة؟ لعلنا من خلال انتخابات الرئاسة، وبعدها الانتخابات البرلمانية، نجد الإجابة عن السؤال! ----- صحيفة البيان الامارتية في 21 -8 -2005