مع وفاة "ماو تسي تونغ" (1976)، بدأت العلاقات الصينية- الإفريقية تشهد تراجعا، وكان لزاما الانتظار إلى أواسط التسعينيات، وخاصة عام 1999، لتأخذ الصين بعين الاعتبار أهمية إفريقيا من جميع النواحي، الاقتصادية والتجارية والسياسية. لو فحصنا حصيلة وافية لسنة 2005 حول هذه التحولات الإستراتيجية، نلاحظ مدى الجهود المبذولة من طرف الصين للتقارب مع الدول الإفريقية، والتي أفلحت على أكثر من صعيد: في 2004، لم تكن إفريقيا تصدر فقط إلى الصين ما نسبته 20 % من ثرواتها الباطنية، بل تستفيد الصين أيضا من تنوع صادرات المنطقة الصحراوية الكبرى، لتلعب فيها الدور الأبرز في تنمية المنطقة، والحصول على حوالي 20 % من نفطها المستورد. حجم التبادلات في 2004 تجاوز قيمة 18 مليار دولار، وحفظ على نفس الوتيرة في 2005، وتضاعف حجم التبادلات ثلاث مرات. من جهة أخرى، انتشرت 520 مؤسسة صينية (ربعها مؤسسات خاصة غير حكومية) في أكثر من 49 دولة إفريقية. لكن مع ذلك، يجب النظر إلى هذه الأرقام بتحفظ، لأن حصة إفريقيا في التجارة الخارجية الصينية لا تمثل سوى 2،4 % من الصادرات و2 % من الواردات في 2004. وتبقى وضعية إفريقيا حاليا في المجال التجاري الصيني، بعيدا عن طموحات الطرفين، مقارنة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا. ومن جهة الاستثمارات، فإننا نسجل بأن الحجم الكلي للاستثمارات الصينية في إفريقيا يساوي تقريبا ذلك المحقق في دول منطقة جنوب شرق آسيا (ASEAN)، لكن من الضروري دراسة شكل الاستثمارات لضبط الأهداف المرجوة من طرف الصين في هذه المنطقة "الغنية" من العالم. * المصالح الصينية من خلال انتشارها في إفريقيا: مصالح الصين مرتبطة بهدفين رئيسيين: 1 - تأمين سياسة الحصول على المواد الأولية الأولى ومشتقات الطاقة مع تنويع موارد التمويل. 2 - سياسة تشجيع الشركات الصينية من أجل تصدير منتجاتها، مع فرض القيمة المضافة على مختلف المنتجات. منذ 1993، أصبحت الصين دولة مستوردة للنفط بصفة شبه كلية، وهذا الاتجاه في الاستيراد، ازداد أكثر، باعتبار أن الاقتصاد الصيني المتنامي بشكل أفقي يعتمد على طاقة إنتاج اقتصادية تعمل بسرعة غير اعتيادية، وبالتالي قوة مستهلكة للطاقة. شعور الصين – رغما عنها- باعتمادها الكلي على الخارج في استهلاكها للطاقة نظير نموها الاقتصادي، جعلها تتوجس من وضعها الخاضع لتقلبات السوق الطاقوية، وضغوطات الدول المنافسة المسيطرة على الشركات النفطية الكبرى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي قد تستغل الوضعية الحرجة للصين للضغط عليها وابتزازها في مواقفها السياسية والاقتصادية والتجارية. التخوف الصيني من الإشكالية الطاقوية، كان السبب الدافع إلى وضع إستراتيجية جديدة تهدف إلى التحكم في استغلال وإنتاج مصادر الطاقة في الخارج. ونظرا للوجود الأمريكي في المنطقة، الذي ازداد أهمية وحيوية بعد حرب الخليج الثانية 1991 واحتلال العراق 2003، فإن هذا دفع الصين إلى مراجعة خياراتها السياسية في الاستيراد بعد القراءة الجيدة للوضع الدولي، حيث شددت على أهمية تنويع مصادر تموينها بالطاقة لحماية اقتصادها من أية انتكاسة مستقبلية. ومن خلال إعادة تقويم الوضع السياسي والاقتصادي السائد في العالم بعد سيطرة أمريكا على أهم مصادر البترول في الخليج، برزت ثلاثة مناطق بامتياز: آسيا الوسطى، بحر قزوين، وإفريقيا (منذ أواسط التسعينيات). هذه الأخيرة تعتبر مركز الثقل في اهتمامات القيادة الصينية، التي مكنت الصين من التغلغل بشركاتها ومنتجاتها "الرخيصة" في أسواق الجزائر، أنغولا، السودان، نيجيريا وغيرها، واحتكار بعض الشركات النفطية لمناطق مهمة لاستخراج النفط وتسويقه. فإفريقيا تملك 8،9 % من الاحتياطي العالمي للنفط، وتؤمن 11 % من الإنتاج العالمي، وتستورد الصين 28 % من النفط الإفريقي، وبذلك تعتبر المستورد الثاني للنفط الإفريقي بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويتضح جليا بأن الصين وضعت إستراتيجية محكمة من أجل الحضور في كل مفاصل الاقتصاد الإفريقي وخاصة في مجال الطاقة، وللتدليل على هذا الوجود، فإن الصين مثلا تستغل النفط بالكونغو برازافيل بداية من 2003، كما استوردت مليون طن من النفط الخام (أي بين 1% و1،5 % من مجموع ما تستورده)، ووقعت في 2005 عقدا مع الشركة الكونغولية لاستغلال النفط، وعقدا آخر مع شركة "طوطال" الغابونية لاستغلال الآبار وشراء مليون طن من النفط الخام. وقد تمكنت الشركات الصينية من أن تستحوذ على أكثر من 40 % من العقود النفطية في السودان أي ما يقارب حوالي 7،7 % من النفط المستورد، واستطاعت أن تركز أقدامها في غينيا الاستوائية أين أصبحت تحتل المرتبة الثالثة في تعاملاتها التجارية، وتسعى إلى نقل اهتمامها أيضا إلى التشاد والكاميرون ودول إفريقية أخرى. عامل آخر مهم يحسب على الصين، حين أفلحت في تزويد العشرات من الدول بتقنييها وغرس اليد الصينية الرخيصة، والضخ في "دياسبورا" الصينية المنتشرة في إفريقيا، وخاصة في أنغولا، أين تعتبر الجالية الصينية من أهم الجاليات في إفريقيا. الوجود الأمريكي في إفريقيا، حتى ولو كان عاديا، لكنه مسلم به، لأن علة وجوده تتفق مع الوجود الصيني: الاستفادة واستغلال آبار النفط في القارة الإفريقية، التي تسيل لعاب المتحكمين في البترودولار! لكن، الوصول الصيني المبكر بكل ما يحمله من استثمارات ضخمة وتقنيات متطورة ودعم مالي وسياسي من المؤسسات العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، شركات التأمين الدولية...تطرح بشكل أساسي التساؤل عن سر "اغتصاب المنطقة"، أي إفريقيا، في صورته "العصرية"، ضخ الأموال، نشر التكنولوجيا وغرس التقنيين، التحكم في العقود، فرض الخيارات الاقتصادية الخارجية، بما يخدم القوة العالمية المتنامية الصين في مجابهة مباشرة مع القطب الأوحد أمريكا. تتضح المصالح الصينية في إفريقيا من خلال الدعم القوي للمشاريع الاقتصادية والتجارية، وإنشاء المنتديات الاقتصادية والصناعية، وغرف التجارة، ومضاعفة الشراكة التجارية، ووجود ديمغرافي صيني متصاعد، والاستثمارات والمنح لدعم "تبعية" الدول الإفريقية باتجاه الصين. المساندة الدبلوماسية، واللوجيستية (السلاح)، والاقتصادية والمالية من الصين سمحت للدول الإفريقية التي تعيش على الهامش تجاوز الضغوطات الدولية بسبب الأنظمة غير الشرعية المتسلطة، فبكين سمحت لهذه الأنظمة "الزبونة"، من الصمود وبالتالي منع أي تنمية اقتصادية تعتمد على اقتصاد نظيف (بمعنى غير ريعي). كما خاضت الصين سياسة حازمة للتوغل في إفريقيا، عن طريق نسج علاقات ثنائية بين الدول المنتجة للنفط، ليس فقط من أجل تأمين تموينها بالمواد الأولية والنفط، ولكن أيضا لاستغلال موارد إفريقيا الأخرى (الغابية، المائية، الخ)... أخيرا، يحق لنا التساؤل: ما هي الفوائد التي ستجنيها إفريقيا من الشراكة مع الصين، ظاهرها المنفعة وباطنها في غير صالح إفريقيا ولا شعوبها؟ وما هي هوامش الربح، إذا قارنا ما قدمته الهند لإفريقيا منذ سنوات عديدة، كان التبادل الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي فيه مفيدا وعادلا لإفريقيا؟ وكيف ستكون الإجراءات المتخذة من واشنطن لمواجهة انتشار بكين في مناطق تعتبرها داخلة في نفوذها، ولا يمكن التسامح أو التنازل عنها؟ المصدر : العصر