أتيح لغير المصريين أن يروا الرئيس حسني مبارك شاباً في أواسط العقد السابع، ويرتدي أزياء شبابية لافتة خلافاً لقيافته الرسمية المعهودة. وذلك بفضل ترشيح الرئيس لأول انتخابات رئاسية منذ عهد الفراعنة. بل إن صورة الرئيس كمرشح بين مرشحين آخرين، وانقطاعه للقيام بحملات انتخابية، وتبادل الاتهامات بين الحزب الذي ينتمي إليه، وبين أحزاب أخرى وخصوصاً تلك الممثلة في الانتخابات عبر مرشحيها، هذه الصورة جديدة على الموقع الأول لدى الشقيقة الكبرى، وبينما اقترنت صورة الرئيسين السابقين عبدالناصر والسادات، بأوصاف مثل: القائد التاريخي، محبوب الجماهير، وبطل العبور، والرئيس المؤمن، فإن الرئيس الحالي يقترن منذ أسابيع بصورة الرئيس المرشح، وهذا جديد على الحياة السياسية العربية والمصرية، على رغم انتخابات جرت هنا وهناك بقدر من التنافس خصوصاً في الجزائر. لقد أدى بدء الحملة الانتخابية إلى إرجاء القمة الطارئة التي دعا إليها الرئيس مبارك، ما يدل على أن الاستحقاق الداخلي بات يتقدم في الأهمية على عقد محفل قومي وإقليمي، وذلك في إشارة إلى أنه لا يمكن لمصر أو لغيرها أن تلعب دوراً فردياً مؤثراً إن لم يكن وضعها الداخلي متماسكاً. هناك بطبيعة الحال مآخذ ومثالب يرددها أهل السياسة والرأي في مصر، على ظروف وآليات هذا التنافس الانتخابي، ولعل بعضها صحيح وبعضها الآخر مبالغ فيه. غير أن الفسحة الواسعة للحريات الإعلامية والحزبية، وإن لم تؤد إلى سد هذه الثغرات، إلا أنها تؤشر في الوقت نفسه على أنه إلى جانب التنافس الانتخابي المقيد، فإن الحريات الإعلامية والحزبية هي في حكم غير المقيدة، بما يمثل رصيداً للنظام السياسي المصري، في سعيه وسعي معارضيه لإصلاحه وتجديده. إذ أن شرط الإصلاح هو توافر بيئة صالحة لإطلاق الآراء والمداولات والتفاعل في ما بينها، في جو حر، وبما يثري الوعي العام، ويجذب الناس إلى المشاركة، خصوصاً في ظروف يقال فيها إن الانفكاك عن الشأن العام بات ظاهرة ملحوظة لدى الجمهور العريض، وهو ما يؤاخذ عليه النظام كما بقية القوى السياسية والاجتماعية في مختلف مواقعها، التي لم تنجح في استقطاب الناس وتأطيرها. الانتخابات الحالية الأولى من نوعها، وما حيف بها من صخب إعلامي ومن إطلاق ورشات سياسية وتعبوية للأحزاب، من شأنها أن تفتح أعين الأجيال الجديدة على هذا المستجد النوعي في حياتهم، فصورة الدولة المركزية كبنية فوقية متعالية ومغلقة وكلية القوة، باتت تتفكك وتتأنسن، وتتبدى أوجه «ضعفها» والمقصود عوامل النسبية والظرفية فيها، ما دام أن التعويل هو على رأي الناخب وصوت المقترع، وليس على مجرد بيعة واستفتاء كما كان عليه الأمر في الماضي، وكما هو عليه الحال حتى الآن في عديد من الدول. هذا ما يستوقف كثيرين خارج مصر، فقد بات الموقع الأول في الدولة الكبرى حصيلة إرادة سياسية داخلية، ومنافسات وتنازعات مشروعة وقانونية، ولم يعد الرئيس هو ما تجود به الأقدار، ولا هو سليل سادة الفراعنة، ولا هو صنيعة الجيش، ومع التقدير الباقي والدائم لهذه المؤسسة الوطنية. وبالقياس، فإن القيادة المصرية أو الدور القيادي لمصر، لم يعد محكوماً فقط بالحجوم والأوزان، ولا بتركة تاريخية متواصلة، بل ما تحمله مصر من إشعاع ومن مصدر إلهام، ومن طاقة تحريك وتحفيز لعوامل التقدم في الدول والمجتمعات العربية، إضافة إلى الوزن «الطبيعي» لمصر وشعبها. ولا شك الآن في أن الاختبار المصري في حقل الديموقراطية قد حقق حتى الآن، نتائج أقل من تلك التي تحصلت عليها التجربة المغربية وحتى اللبنانية «من منظور معين»، غير أن تأثير التجربة المصرية يظل أكبر في المشرق كما في شمال أفريقيا العربي، إذ أن مصر تتهيأ لأن تقطع مع تجربة الحزب الواحد الحاكم، ومع تراث الدور السياسي للمؤسسة العسكرية في ملء المواقع العليا والمتقدمة. كما تذهب مصر بعيداً في تجربة الحريات الإعلامية والنقابية، وتعظم دور القضاء على قاعدة استقلاليته «على رغم الممانعة الملحوظة الرسمية في تكريس هذا الدور»، وهذا التحولات البنيوية تفيض عن مجرد التغيير على رأس السلطات. وإذا أضيفت إلى ذلك الحيوية الداخلية: الاجتماعية والثقافية والعلمية، والتحرر الاقتصادي على رغم ما يكتنفه من أعطاب، فإن مصر بذلك تتهيأ لاستعادة دور قيادي ومؤثر بغير نزعة توسعية «إمبراطورية»، وإنما بما سبقت الإشارة إليه، من عناصر جذب وإلهام وعوامل تحريك وتحفيز، من بداية تكريس لمفهوم عصري موضوعي لنفوذ الدول، على قاعدة أن الوفاء لاستحقاقات التقدم في الداخل، وتعظيم الموارد الوطنية والذاتية، هو ما يفضي إلى تعزيز المكانة الإقليمية والدولية لهذا الدولة أو تلك. وليس التدخلات في شؤون الآخرين، ومحاولة فرض ولاءات واستقطابات في الخارج، بينما يتم تضيق المجال العام في الداخل وإقفار الحياة السياسية والعامة فيه. وعليه يتمنى المرء أن تجري الانتخابات الرئاسية المصرية في أفضل ظروف ممكنة، فمن مصلحة الحزب الوطني أن يتحول إلى حزب كبير بين أحزاب أخرى غير صغيرة، بدلاً من أن يستمد نفوذه من تحكمه في مفاصل الإدارات ومراكز صنع القرارات، والسيطرة على مجريات تجديد الهيئات التمثيلية المحلية، ومن المهم تمكين الجسم القضائي من الإشراف على مراكز الانتخابات، على رغم الصعوبة العملية لذلك (14 ألف قاض ل 53 ألف مركز اقتراع) وذلك بعد أن استقر الرأي على استبعاد المراقبة الدولية، بعد سجال طويل حولها والاحتكام إلى الإشراف القضائي الداخلي بغير تدخل من السلطة التنفيذية. وفي النهاية فإن صورة مصر الآن هي على المحك وفي الميزان. ----- صحيفة الحياة اللندنية في 28 -8 -2005