المتابع للحملة الانتخابية الرئاسية في جمهورية مصر العربية يدرك بوضوح أن الأمة قد دخلت مرحلة الزمن الجديد. وأن التغيير قد اقتحم الأبواب المغلقة مهما كانت العوائق أو التشوهات التي تصاحب- عادة- كل مرحلة تغيير في حياة الشعوب. واللافت للنظر الإحساس القوي بحركة التغيير الذي تعكسه الانتخابات الرئاسية المصرية والذي لم يسبق أن عكسته بهذه القوة أي انتخابات رئاسية أخرى جرت في الوطن العربي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الدور المهم الذي لاتزال تلعبه مصر في حركة التغيير في الأقطار العربية، فإلى مصر تشرئب الأعناق وعلى خطى مصر القومية والحضارية تسير الأقطار العربية. في عقد الخمسينات استهلت مصر حركة التغيير عن طريق الانقلابات العسكرية فسار على نهجها العديد من الأقطار العربية، وتبني مصر لحركة التغيير الديمقراطي اليوم سوف تننعكس آثاره على حركة التغيير في الأقطار العربية كلها بصرف النظر عن شكل التغيير أو حجمه. لكن هناك حقيقة لا بد من إدراكها وهي أن التغيير في كل الأحوال لا يمكن أن يتحقق بالسرعة المطلوبة وبالشكل المرغوب فيه إذا لم تتوافر إرادتان: إرادة سلطة ترغب فعلاً في صنع التغيير والسير به في طريق ترسيخ نهج ديمقراطي حقيقي وإرادة شعبية قادرة على التقاط المبادرة وتفعيلها والحيلولة دون التراجع عنها أو التباطؤ فيها، أو التحايل عليها. الملاحظ في عالمنا العربي أن الإرادة السياسية للنخب الحاكمة مفعمة بالتردد والتناقض والخوف من المستقبل المجهول، ولهذا فهي تتقدم خطوة في لحظة نشوة، وتتراجع عشراً في حالة رهبة، ورغم ذلك فهي حين تتقدم لا تجد من يستثمر بجدية ووعي وشجاعة تقدمها، وحين تتراجع تتراجع في فراغ لا تجد من يصدها أو يعيقها أو يضع الحواجز أمام تراجعها أوحتى يقنعها بخطأ وخطورة هذا التراجع. سبب هذا الفراغ أن المعارضة العربية والقوى المتطلعة للتغيير وصاحبة المصلحة في تحقيقه تعيش مرحلة تيه وإرباك واختلال في التوازن النفسي والفكري والتنظيمي، فهي كمن خرج من ظلام دامس إلى نور ساطع فعجز عن تبيّن مواقع أقدامه.. أو كسجين طالت معاناته ويئس من لحظة الفرج وحين فتحت له أبواب السجن عجز عن التصديق بإمكانية خروجه فظل في موقعه ينتظر لحظة إقفال الأبواب من جديد. في صف المعارضة أحزاب محكومة بثقافة لا تتفق مع مرحلة التغيير ولا مع متطلبات الزمن الجديد، تتمترس وراء ايديولوجية ضيقة لا تعترف بالآخر ولا تستوعب التغيير ولا تتحمل النقد، ولا تعترف بالخطأ، وبعض الأحزاب بليت بقيادات حكمتها مصالح خاصة فعاشت أسيرتها ومن زاويتها حكمت سلوك أحزابها، وهناك أحزاب وقوى سياسية محكومة بثقافة رعوية تنظر إلى السلطة وأهلها بقداسة ورعب وتستدعي قياداتها صفات الحكمة والواقعية والرصانة وأدب الخطاب لكي تداري تخاذلها وجبنها. وهناك من يرى في الحزبية وسيلة للارتزاق والابتزاز والانتهازية والمساومات الرخيصة. كثير من أحزاب المعارضة لا تشكل النموذج للمؤسسة الديمقراطية، فهي نفسها محكومة بثقافة سلطوية أشد انغلاقاً واستبداداً من السلطة التي تعارضها تنادي بالديمقراطية وهي تمارس التسلط والانفراد في اتخاذ القرار داخل أطرها، تنادي بالحرية وهي تضيق بأي عضو من أعضائها يختلف في رأيه معها، تطالب بدولة المؤسسات وهي تدير حزبها بعقلية عاقل حارة متسلط. ومن المؤسف أن التخلف الذي يفرض نفسه على النظام العربي سلطة ومعارضة قد ألقى بظله الثقيل على مؤسسات المجتمع المدني المهنية والثقافية والجماهيرية إلا من رحم ربك. الديمقراطية لا تتحقق في مجتمع إلا في ظل التوازن بين مؤسسات المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية، وبما أن السلطة في مجتمعاتنا العربية هي نتاج المؤسسة العسكرية أو المؤسسة العشائرية أو كليهما فإن أداة التوازن هي مؤسسات المجتمع المدني السياسية وغير السياسية ومن دون البناء الديمقراطي والمؤسسي لهذه المؤسسات تظل هي والسلطة وجهين لعملة واحدة ومن دون تماسك هذه المؤسسات وتضامنها والتنسيق الجاد فيما بينها خلال مرحلة الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي تظل مؤسسات غير فاعلة ويظل تحقيق التوازن وبالتالي تحقيق الديمقراطية أمراً مشكوكاً فيه، وبنظرة فاحصة إلى تجربة الانتخابات الرئاسية المصرية نكتشف كم هو مشكوك في نجاح أي مرشح لحزب من أحزاب المعارضة وكم هو معيق لهذا النجاح عدم التنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني. عشرة أحزاب تتنافس على مقعد واحد، وقد كان الأجدى لأحزاب المعارضة أن تتفق على مرشح واحد حتى تتمكن من تحقيق منافسة قوية أمام منافس هو الأقوى. إن هذا التشرذم لقوى المعارضة التي جميعها تناطح مؤسسات عتيدة وثقافة سلطوية متمكنة وامكانات مالية ومعنوية هائلة هو تشرذم لا معنى له سوى أن المعارضة لم تستوعب بعد أبعادها وأهمية تضامنها في هذه المرحلة وانها لاتزال مشدودة الى شوفينية حزبية وأنانية فردية، وايديولوجيات ضيقة تتجاوز واجبها في ترسيخ النهج الديمقراطي أولاً. هذا الموقف من المعارضة يؤكد أن السلطة ليست وحدها محل اللوم، والنقد والاتهام بتعطيل حركة التغيير أو تأخيرها وإنما للمعارضة نصيب لا يستهان به. ----- صحيفة الخليج الاماراتية في 28 -8 -2005