اليوم، تجرى في مصر انتخابات للرئاسة مختلفة، في شكلها وإجراءاتها والظروف المحيطة والمؤثرة فيها، داخلياً ودولياً عن أي انتخابات سبقتها طوال الخمسين عاما الماضية. وبعد اعلان النتائج ستكون مصر ايضا مختلفة، ولن يمكن في اطار الظروف التي اختلفت، ان يكون هناك انفراد لفريق دون غيره باللعبة السياسية، فالوضع في مصر خلال الأشهر التي سبقت هذا السباق الانتخابي، قد دخلته اطراف اخرى مدعوة للدخول واطراف اخرى اقتحمت الساحة من غير دعوة، وصار للكل وجود وانصار ومؤيدون وتأثير في العملية السياسية الجارية، حتى ولو تفاوتت درجات هذا التأثير زيادة أو نقصانا. تسابق المرشحون في السباق الانتخابي بلا استثناء على طلب صوت الناخبين، وتمنى رضاهم، اعترافا من الجميع بأن “رضى” الناخب هو صك الشرعية للحكم، ما دامت الانتخابات هذه المرة تجرى بالاختيار وليس بالاستفتاء، واقراراً منهم بأن ما يطلبونه هو تفويض بعقد اجتماعي جديد، قدم المرشح محتواه ببرنامج يلزم فيه نفسه سياسياً وأدبياً، بتعهد بالاصلاح الشامل المبني على الاصلاح السياسي العاجل، والذي تنتقل به الرئاسة بمصر الى عصر جديد تتحقق فيه نهضة تتوافر لها عناصر النجاح، بما يتوافر لمصر من امكانات وقدرات مطلوب فقط ادارتها بمنطق الإدارة الصالحة والواعية، وعلى اساس التجسيد الحي للمعنى الذي فهمه الناس لتعديل المادة (76) من الدستور، وهو المعنى الذي يمنحون وفقاً له رضاهم الذي سعى كل المرشحين طلباً له. ولا يغيب عن البال ان الانتخابات التي تجرى اليوم، تواكبها حالة تأهب واستنفار ويقظة للوعي السياسي لدى الناخبين، بأن لهم حقوقا هي استحقاق على كل من يتولى منصباً تنفيذياً، وتشريعياً، ومستحقاً بحلول مشاكل مزمنة، ومشاكل مستجدة، وان الحل حين يستعصي في فكر الإدارة وكفاءتها حسب المقاييس المواكبة لهذا العصر، وحين يتوافر الحل فهو بها. *** لقد تضمنت البرامج السياسية للمرشحين تعهدا باكتمال الاصلاح السياسي، والطريق إليه يبدأ بدستور جديد يلم بأطراف الواقع السياسي، والاجتماعي والاقتصادي، الحقيقي في مصر، دستور يقيد صلاحيات السلطة التنفيذية، ويدعم آليات المساءلة والمحاسبة لها في البرلمان، وفوق هذا وذاك ممارسة البرلمان لدوره الفعلي من دون تداخل بين عمل الحزب الحاكم والأداء البرلماني، برلمان يراقب ويحاسب، ويملك سحب الثقة من الحكومة، لو انها اخلت بروح ونصوص التفويض المخول لها من “أصحاب الرضى”، الذين يعطون تفويضا مشروطاً وليس صلاحيات مطلقة. والأداء التنفيذي في كل مجالاته لا يرتقي الى هدف الاصلاح المنشود، إلا بشروط، منها ان من يتم اختياره لتولي المسؤولية في قطاع ما، انما يحدث ذلك بناء على مواصفات تنطبق عليه، واذا لم تتوافر فيه تسند المهمة الى البديل الاصلح، طبقا للقاعدة القائلة: “المنصب ينادي شاغله”. وان يكون شغله موقعه التزاما محدد المدة، فإذا أخفق أو تقاعس في تنفيذ ما عهد به إليه، يعهد بالمسؤولية لغيره. ومعروف ان عنصر الخوف من ضياع المنصب يمثل في الدول الديمقراطية قيدا ذاتيا على من يشغله، من ان يتهاون من دون قصد، أو يرتكب المخالفة متعمدا، مادام الخوف قد انسحب من سلطاته. *** في الدول الديمقراطية التي يتسابق فيها المرشحون على أصوات الناخبين، والتي يمكن ان يلعب صوت واحد، دوراً حاسماً في ترجيح كفة هذا دون ذاك، تسعى الاحزاب والقوى السياسية، لتوسيع قاعدة القبول الشعبي لها، بالاستعانة بذوي القبول العام، وتتفادى الشخصيات التي قد تحظى بكراهية أو نفور الحس الشعبي. ولا تفعل ذلك بطريقة تجميل الوجه السياسي ببعض الرتوش، أي بجذب اثنين او ثلاثة من اصحاب القبول الشعبي، وانما تكون قاعدة اختيار كل اركانها هي اختيار المشهود لهم لدى الرأي العام، بالكفاءة والصدق، والاخلاص وحسن السمعة، والذكاء السياسي والاجتماعي والترفع عن التلون والرياء، وامتهان النفاق السياسي. *** وإذا كان الاصلاح الشامل هو قضية السباق الانتخابي، وسند شرعية الحكم بناء على التعهد المعلن في برامج المرشحين، فإن هذه القضية لم تقفز فجأة من زوايا المجهول، بل كانت حديثا ملحاً في كل بيت ومنتدى، وفي الاحاديث الخاصة، بل والعامة التي كان من اوضح مظاهرها، ما كان يدور خلال السنوات الماضية في ندوات معرض الكتاب، والتي لوحظ ان المواظبين على حضورها قد تنوعوا ما بين المثقفين وبين رجل الشارع العادي والبسطاء من جمهور المعرض، وكانت الافكار التي يفصحون عنها في مداخلاتهم، هي التي نسمعها هذه الايام بقوة بعد ان خرجت من حدود الجدران الاربعة، الى العلن الأوسع مدى، وقد لاحظت انه لم تكن تمر مناسبة في هذه الندوات الا ويكاد يتردد على ألسنة كثيرين من اصحاب المداخلات، تعبير متكرر تنطق به لهجة احباط و”هل سنظل نأتي في كل سنة الى معرض الكتاب لنتحدث عن جدوى الاصلاح، دون ان يسمح لنا العمر بأن نراه بأعيينا؟”. *** واليوم تجرى انتخابات الرئاسة في مناخ لم تعد فيه قضية الاصلاح هي المطلب المستحيل، فلقد حملها التيار المتدفق للتحولات التي شهدتها مصر في الفترة الاخيرة، الى المقدمة، تحتل لها موقعا، تجسد فيه ارادة شعبية هي التي تسابق نحوها المرشحون لكسبها ونيل رضاها. لهذا صارت الظروف مختلفة، وما ستشهده مرحلة الرئاسة المقبلة مختلفا، فهناك عودة للدماء الى أوصال الجسد السياسي والاجتماعي في مصر، يدفع بها تيار متدفق من الوعي الشعبي الذي تحول بوجهه الى العملية السياسية الجارية، بعد ان كان قد أدار ظهره لها طويلاً. ----- صحيفة الخليج الاماراتية في 7 -9 -2005