عندما بدأ الإعداد للانتخابات الرئاسية الأولى بين أكثر من مرشح، والتي أجريت الأربعاء الماضي، انشغلت الساحة السياسية المصرية بسيناريوات عدة لليوم التالي لهذه الانتخابات. تراوحت تلك السيناريوات بين التفاؤل والتشاؤم بدرجاتهما المختلفة. ولكن مع بدء الحملة الانتخابية والتزام أجهزة الدولة والهيئات الحكومية حيادا لا سابق له منذ أول استفتاء رئاسي في 1956، أخذت السيناريوات الأكثر تشاؤما في التراجع. لم يكن الحياد الحكومي جامعا لأجهزة الدولة كلها مانعا لأي انحياز. ولكنه كان كافيا لطمأنة الذين اقترن تشاؤمهم بخوف من أن ينتهي في اليوم التالي للانتخابات «أوكازيون» الانفتاح السياسي الذي شهدته الحملة الانتخابية. وذهب أكثر السيناريوات تشاؤما إلى إمكان لجوء السلطات إلى تصفية الحساب ضد من ذهبوا إلى أبعد مدى في الإساءة إلى رأس الدولة الذي كان فوزه بفترة رئاسة جديدة مرجحا، خصوصا أن بعضا من هذه الإساءة كان شخصيا. ويدرك العارفون بتاريخ مصر الحديث أن كتابا وسياسيين سجنوا في المرحلة شبه الليبرالية خلال الربع الثاني في القرن الماضي بسبب انتقادات وجهوها ضد الملك يتضاءل معظمها بجوار هجمات تعرض لها مبارك وعائلته. غير أن هذه التجاوزات اللفظية خلال تظاهرات وفي صحف عدة لم تأت من فراغ، ولم تكن نتيجة «سوء أخلاق»، بمقدار ما هي أحد افرازات جمود سياسي طال أمده. وإذا كان بعض من ذهبوا إلى أبعد مدى في هذه التجاوزات راهنوا على»حماية» يوفرها لهم الوضع الدولي الراهن، فلم يحدث ذلك إلا لأن الانسداد السياسي رسم لنظام الحكم في مصر صورة سلبية على الصعيد العالمي. وهذه معضلة يحلها تحريك الحياة السياسية التي جُمدت فعليا لفترة طويلة، وبالتالي توسيع نطاق التنافس الذي بدأ في الانتخابات الرئاسية، أي فتح أبواب جديدة لهذا التنافس وليس سد الباب الذي بات مشرعا عبر هذه الانتخابات. وقد أعطى مقدار الحياد الحكومي، خصوصا على صعيد الإعلام المرئي الرسمي، انطباعا بأن هذا هو الاتجاه، وأن التجاوزات التي حدثت لن تكون هي المحدد للمرحلة التي ستبدأ في اليوم التالي للانتخابات. ومع انحسار السيناريوات الأشد تشاؤما، يصح السؤال عن حظوظ السيناريوات الأكثر تفاؤلا، والتي تصدرها سيناريوان رئيسان هما الإصلاح البطيء والجزئي، أو التروي كما يسميه بعض أنصاره، والإصلاح السريع الواسع. فالبرنامج الانتخابي الذي خاض مرشح الحزب الوطني الحاكم الرئيس حسني مبارك الانتخابات على أساسه هو برنامج إصلاحي في المقام الأول. لكن الالتزامات التي تعهد بها يمكن تحقيقها في العامين الأول والثاني لفترته الجديدة، وقد تمضي هذه الفترة كلها من دون الانتهاء منها. كما أن طريقة تنفيذ هذه الالتزامات قد تغير شكل النظام السياسي إلى حد كبير، وقد تحدث تعديلا طفيفا فيه. فالأمر يتوقف على سرعة أو بطء عملية الإصلاح من ناحية، وعلى الوفاء بتعهدات البرنامج الانتخابي بشكل مستقيم أو الالتفاف عليها. وانه لفرق كبير، مثلاً، بين أن يضع مرشح الحزب الوطني الفائز جدولا زمنيا لإجراء الإصلاحات التي وردت في برنامجه الانتخابي فور أدائه اليمين القانونية بعد إعلان فوزه، وأن يترك توقيتات هذه الإصلاحات للظروف. وفرق كبير أيضا، بين أن يعرف المصريون من الآن ما سيكون عليه نظامهم السياسي خلال عامين، وأن يبقى مسار عملية الإصلاح مجهولا بالنسبة إلى بعضهم وغامضا بالنسبة إلى بعض آخر. فالوضوح، هنا، موضوعيا وزمنيا يحفز على توسع مستمر في المشاركة السياسية يبدأ من اليوم ويزداد مع اطراد العملية الإصلاحية في خطوات محددة زمنيا يتم إنجازها خلال عامين مثلا. كما أنه لفرق واضح بين إجراء الإصلاحات التي التزم بها مرشح الحزب الوطني بشكل مستقيم انطلاقا من اقتناع بأن هذا الحزب هو صاحب المصلحة الأولى في تغيير حقيقي، وبين الالتفاف على هذه الإصلاحات. فإذا كان للأحزاب والقوى السياسية جميعها، القائم منها الآن والكامن بانتظار ظروف تمكنه من الظهور، مصلحة أساسية في إصلاح حقيقي سريع، يظل للحزب الحاكم مصلحة أكبر في هذا الإصلاح لثلاثة أسباب: أولها أن إعلانا فوريا عن جدول زمني محدد وقصير المدى لتحقيق الإصلاحات التي تضمنها البرنامج الانتخابي لرئيسه من شأنه أن يدعم مركزه في الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ عقب شهر رمضان مباشرة. في إمكانه، إذا، أن يخوض هذه الانتخابات ممسكا بزمام المبادرة متخذا موقفا ذا طابع هجومي على خصومه السياسيين، بدلا من أن يلتزم موقفا دفاعيا يرجح أن يكون ضعيفا في مواجهة حملات تشكك في جدية التزامه ببرنامج رئيسه وتتهمه بأنه قدم برنامجا للاستهلاك المحلي وهو يضمر عدم الالتزام به. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الانتخابات النيابية التي اقترب موعدها ستكون الأسخن والأصعب بالنسبة إلى الحزب الوطني الحاكم، تصبح مصلحته في خوضها على أساس جدول زمني محدد لعملية الإصلاح غير خافية. والسبب الثاني الذي يجعل مصلحته في إعلان فوري عن هذا الجدول الزمني أكبر من مصلحة أي من خصومه هو أنه الأكثر احتياجا إلى زيادة معدلات المشاركة في الحياة السياسية، بدءا بالانتخابات البرلمانية القادمة. فالحزب الحاكم في مصر قد يواجهه خطر إذا ظل المعدل العام للمشاركة في هذه الانتخابات على حاله التي كان عليها منذ أول انتخابات تعددية في العام 1976، وهو ما بين 25 و48 في المئة من الناخبين. ففي ظل منافسة يرجح أن تكون أكثر ضراوة سيحصل المعارضون على عدد أكبر من الأصوات يُفترض أن يكون خصما من الحزب الحاكم ما لم يشارك ناخبون جدد. وقد أتاحت الانتخابات الرئاسية فرصة للبدء في فتح باب لزيادة المشاركة السياسية. فإذا امتلك الحزب الحاكم شجاعة فتح هذا الباب، سيكون هو أول وأكبر من يجني الثمار لأن معظم المشاركين الجدد المتوقعين في المرحلة الراهنة هم شبان وشابات من الطبقة الوسطى والعليا بشرائحهما المختلفة. وغالبية هؤلاء معتدلون في نظرتهم إلى الواقع والمستقبل. ولذلك لا تستهويهم الاتجاهات الأصولية واليسارية، فيما تعاني الأحزاب «الليبرالية» التي يمكن أن تنافس الحزب الحاكم عليهم اختلالات بنائية ووظيفية هائلة على النحو الذي ظهر في أداء حزبي «الوفد» و»الغد» في الانتخابات الرئاسية. ولذلك لن تكون الأحزاب «الليبرالية» منافسا للحزب الحاكم على القادمين الجدد من هذه الفئات إلا بعد سنوات، إذا أتاح الإصلاح الدستوري والسياسي فرصة أو خلق وضعا يفرض على قادتها البدء في إصلاحها من الداخل. أما السبب الثالث الذي يجعل للحزب الحاكم مصلحة في إضفاء صدقية فورية على برنامج رئيسه الإصلاحي فهو أن مصر يمكن أن تكون مؤهلة في حال تسريع عملية إصلاحها، لتقديم النموذج الديموقراطي العربي الذي فشلت الولاياتالمتحدة في خلقه في العراق. وفي هذا مصلحة أيضا للنظام السياسي في مصر، وكذلك للدول العربية التي كان سيناريو النجاح الأميركي في العراق يمثل تهديدا لها. ولكن بالرغم من وضوح مصلحة الحزب المصري الحاكم في إصلاح سريع وحقيقي على هذا النحو لا يبدو أن معظم «الحرس القديم» فيه يدركون الأمر على هذا النحو. غير أن القريبين من أمين السياسات فيه جمال مبارك يدركون ذلك كله أو جزءا فيه. ولكنهم ليسوا وحدهم في هذا الحزب. والأمر لا يحتمل انتظار حسم خلافات في داخله خلال مؤتمره السنوي المقبل في 27 الجاري، لأن صدقيته تقتضي إعلان جدول زمني للإصلاح فور أداء رئيسه اليمين القانونية رئيسا للجمهورية ليكون على هذا المؤتمر تحديد تفاصيل تنفيذ كل خطوة من خطوات هذا الإصلاح في موعدها المحدد... هذا إذا أراد أن يقود تحولا ديموقراطيا حقيقيا يشكره عليه الناس ويسجله له التاريخ. ---------------------------------------------------------------------- صحيفة الحياة اللندنية