تفصح نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية عن عدة مؤشرات وقراءات عديدة ومختلفة. الانتخابات في حد ذاتها تعتبر سابقة في تاريخ مصر الحديث. وإيجابياتها تتمثل في أن الشعب المصري أصبح بإمكانه الاختيار والمقارنة والإدلاء برأيه. أصبح هناك تسويق سياسي وتجمعات سياسية وبرامج تعرض على الجماهير لكسب أصواتها، بداية ولو أنها محتشمة لكنها ستمهد الطريق مستقبلاً إلى انتخابات تعددية تكون أكثر نزاهة وأكثر ديمقراطية وشفافية. ما يعاب على أول تجربة للانتخابات الرئاسية التعددية في مصر هو نسبة المشاركة المتدنية. فبلغة الأرقام لم يدل ثلاثة أرباع المصريين برأيهم في الرئيس الذي يختارونه ليحكم البلاد. وهذا مؤشر خطير لعدة اعتبارات وهو أن الغالبية العظمى من الناخبين يعتبرون أغلبية صامتة لم تؤمن ولم تقتنع بعملية الانتخابات برمتها. وهذا لعدة اعتبارات، من أهمها أن النتيجة معروفة مسبقاً وأن الأمور ستبقى على حالها وأن الرئيس الجديد الذي لم يحقق الكثير خلال ربع قرن يصعب عليه خلال السنوات الست المقبلة أن يغير أوضاع الجماهير العريضة التي تعاني من الفقر والبطالة وغلاء المعيشة. القراءة الثانية لنتائج الانتخابات تتمثل في ضعف المعارضة وضعف المنافسين للنظام القائم. إن النظام المصري استعمل كل وسائل وإمكانيات الدولة للقيام بحملته الانتخابية ولكسب أصوات الناخبين سواء عن طريق وسائل الإعلام الحكومية والتي تعتبر أكثر تأثيراً وانتشاراً، أو عن طريق الآلة الإدارية والبيروقراطية الكبيرة التي تنتشر في مختلف محافظات وبلديات مصر. القراءة الثالثة تتمثل في انهيار الطبقة الوسطى وغيابها تماما على الساحة السياسية في مصر. فعلى غرار كثير من الدول العربية تبقى اللعبة السياسية محددة بين السلطة والجماهير الشعبية والحشود التي تنقاد وراء الحاكم بدون مساءلة ولا معارضة. فعبر العصور والتاريخ لعبت الطبقة الوسطى الدور المحوري في عمليات التغيير وفي خوض غمار الثورات والحركات التي كسرت الوضع الراهن وفتحت الأبواب أمام التغيير والتجديد والتطوير. غياب الطبقة الوسطى وغياب معظم المصريين عن التصويت يعني انعدام القوى المضادة في المجتمع، وكذلك غياب الإطار القانوني والتشريعي والتنظيمي لهذه القوى حتى تمارس عملها وتسمع صوتها للمجتمع. فحركة «كفاية» في مصر لم تستطع أن تخترق الجدار الصوتي وجدار الوضع الراهن والنظام، حيث إن جهودها لم تستطع أن تجند الجماهير لرفض الواقع الذي يتظاهر بالديمقراطية وإبداء الرأي، لكن الواقع غير ذلك تماماً. القراءة الخامسة تشير إلى أن البداية الأولى للانتخابات التعددية المصرية انطلقت مبتورة. المادة 76 من الدستور جاءت لتضع شروطاً تعجيزية للمرشحين وكل هؤلاء الذين من شأنهم تشكيل ندية للنظام. فتعديل المادة 76 من الدستور جاء مخالفاً للدستور وأبقى على صيغة الاستفتاء على المنصب لكن في صورة جديدة. فقد اشترط التعديل حصول المستقل الراغب في الترشيح على تأييد من 250 من أعضاء مجالس الشعب والشورى والمحافظات التي يهيمن عليها الحزب الوطني الديمقراطي. فمبدأ التداول على السلطة في مصر، إذا واضح في الشكل وبارز للاستهلاك الإعلامي ولتضليل الجماهير فإنه في الواقع لم يكن له وجود. القراءة الأخرى لنتائج الانتخابات هي التجاوزات التي حدثت أثناء عملية التصويت حيث إنها فاقت التوقعات وهذا ما يؤثر سلبا على مصداقية النظام ونزاهته في ممارسة العملية السياسية. القراءة للعملية الانتخابية الرئاسية المتعددة في مصر هي تلك التجاوزات العديدة وباعتراف اللجنة المستقلة لمراقبة الاقتراع. فاللجنة أقرت أن نسبة المشاركة الحقيقية لم تتجاوز 18% من نسبة الناخبين المسجلين في الكشوف الانتخابية علما بأن النتيجة المعلنة رسميا هي 23%. كما أعلنت اللجنة والتي مثلها 2200 مراقب أن تجاوزات كبيرة وعديدة ومتنوعة حدثت أثناء عملية الاقتراع من أهمها: وجود أنشطة دعائية داخل اللجان لصالح مرشح الحزب الوطني، الأجهزة الرسمية شاركت في الدعاية لصالحه، تدخل الأجهزة الأمنية للتأثير على الناخبين، بعض اللجان لم تتوفر فيها سرية الاقتراع. كما كشفت اللجنة عن وجود حالات لشراء الأصوات وعمليات الترهيب والترغيب من قبل مرشح الحزب الحاكم. من جهة أخرى انتقدت اللجنة المستقلة اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات لفشلها في شرح وتوضيح العملية الانتخابية وأبعادها للمواطنين، وكذلك توفير جو الثقة والجدية والتوعية. كما أن قرار عدم السماح لمراقبي المجتمع المدني من المشاركة في عملية الفرز يعتبر قراراً لا يخدم نزاهة وشفافية الانتخابات ولا يخدم الديمقراطية. السؤال الذي يطرح نفسه إذن هو: من الذي صوّت للفائز وإلى أي حد فاز بالانتخابات الرئاسية المتعددة؟ المعارضون السياسيون في مصر يقولون إن الرئيس المنتخب لم يحصل في حقيقة الأمر إلا على 19% من مجموع المقيدين في سجلات الانتخابات وأن الانتخابات المتعددة تعتبر استفتاء وليس انتخابا. وإذا امتنعت الطبقة الوسطى عن التصويت وامتنع المثقفون عن الإدلاء برأيهم فتعتبر القاعدة الشعبية للرئيس هشة لا يمكن الاعتماد عليها. وهذا يعني من جهة أخرى أن الطبقة الوسطى والنخبة المثقفة لا تثق في النظام السياسي ولا ترى أن الفائز يمثلها وأنها على استعداد لفتح قنوات التعاون والعمل معه. مصر مقبلة على التغيير، لكن مع الأسف الشديد تغيير مبتور ومحتشم ويعاني من معوقات وعراقيل عدة حيث إن نية صانع القرار ما زالت متمسكة بالأبوية وأحادية القرار، فمفهوم التغيير يقوم على الاستمرارية والولاء للاستمرار. تغيير بشروط والشروط تتمثل في عدم تغيير ركائز النظام ومبادئه وأسسه. تعتبر عملية اختراق الوضع السياسي الراهن في مصر عملية صعبة ومعقدة لأن وسائل وشروط التغيير ليست متوفرة أساسا وأن تغيير المادة 76 في الدستور ما هي إلا عملية تجميلية تبرز التغيير في الظاهر لكن ضمنياً وداخلياً الأمور بقيت على حالها، فصاحب القرار يدعي التغيير لكن بالإبقاء على مصالحه وقواه تسيطر على مفاتيح الحكم ومفاصل الاقتصاد والسياسة وصناعة القرار. الوجه الآخر لعملة النظام السياسي المصري هو فشل الإصلاحات الاقتصادية في السنوات الماضية، وإن عملية تعويم الجنيه المصري سنة 2003 أدت إلى تراجع المستثمرين الأجانب وتدهور القدرة الشرائية عند المواطن المصري. التحدي الكبير من أجل التغيير إذن يتمثل في توفير الشغل لمئات الآلاف من الشباب المصري وكذلك رفع مستوى المعيشة والقدرة الشرائية للمواطن. -------- صحيفة البيان الإماراتية في 15 -9 -2005