العلاقة بين لغة الإنسان ومستواه الفكري والثقافي والأخلاقي علاقة وثيقة جدًا، والأمة التي تنهار لغتها وتنحط عباراتها وتهبط قيمة كلماتها هي أمة معرضة للانهيار في بنيانها الداخلي، وتهتز قيمتها بين الأمم الأخرى. منذ أيام خاطب المحامي مرتضى منصور على الهواء مباشرة الدكتور سيف الدين عبد الفتاح قائلاً (أنت حمار وعبيط وعميل) وكررها أكثر من مرة. لم يكن الرجل منفعلاً لدرجة أن عقله قد استغلق عليه، بل كان يتكلم بصورة طبيعية، وبين كل عبارة وأخرى كان يستمر في مطالعة صحف بين يديه. لم تكن تلك الكلمات النابية فلتة أعصاب، ولكنها كانت تعبر عن ثقافة الرجل ومستواه الفكري والخلقي بلا رتوش. الأعجب من ذلك أن مقدم البرنامج التليفزيوني وائل الإبراشي لم يردع الرجل ولم يعلق على هذا السباب والقذف، كل ما فعله أنه لامه على مقاطعة الدكتور سيف ووعده أنه سيعطيه الفرصة كاملة للرد!. والأعجب من هذا وذاك أن القناة التليفزيونية لم تتخذ أي إجراء لا تجاه المحامي ولا موظفها، ولم تبال أن تعتذر لجمهور المشاهدين عن هذا الإسفاف. والأعجب من كل هؤلاء أن تسكت الدولة عن هذه الفوضى وألا تأخذ على أيدي السفهاء والمهرجين، حتى لو ادعوا زورًا وتضليلاً أنهم دعاة لحرية الرأي والتعبير. وقريب من هذه الفوضى الأخلاقية، ما حدث لجمال عبد الرحيم الذي أصدر رئيس مجلس الشورى قرارًا بإقالته من رئاسة تحرير صحيفة الجمهورية لخبر كاذب نشره عن تحويل طنطاوي وعنان للكسب غير المشروع. لقد أحدث القرار ضجة إعلامية ووقفات واحتجاجات وتباكي على سياسة تكميم الأفواه وأخونة الإعلام ومحاصرة الحريات إلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة المملة. لا أعرف حدود صلاحيات مجلس الشورى في قرار كهذا ولا مسئولية المجلس الأعلى للصحافة، ولا أريد أن أناقش الأمر من هذه الزاوية – برغم وجاهته واعتباره – لكن أناقش هنا حالة الفوضى الإعلامية. إن قرارت الرئيس مرسي في 12 أغسطس الماضي بإحالة المشير طنطاوي والفريق عنان إلى التقاعد لم تكن الكلمة النهائية في إنهاء حكم العسكر، وإن هذه القرارات تحتاج لنفس طويل وحكمة بالغة حتى لا تحدث أي اضطرابات داخل قواتنا المسلحة، وإن الشكل الكريم للإقالات كانت خطوة حكيمة موفقة للحفاظ على تماسك القوات المسلحة وقطع الطريق على أي محاولات لزعزعة الجبهة الداخلية. وعندما تعبث صحيفة بهذا الأمن القومي وتعرض استقرار البلاد بأخبار مزعومة فإن المسئولية السياسية والوطنية توجب محاسبة من فعل هذا والأخذ على يديه. إنه لا يكتب هنا عن خبر انتقال لاعب كرة أو اعتزال فنان، إنه ينشر في منطقة شائكة شديدة الحساسية وشديدة الخطورة وبالغة الهشاشة. وأذكر هنا بأن حالات مشابهة تعتبر أقل خطرًا قد لاقت إجراءات صارمة في أعتى الديمقراطيات. فعلى سبيل المثال، في يوليو سنة 2005، حكمت المحكمة الفيدرالية الأمريكية بالسجن على الصحفية “جوديث ميلر” (Judith Miller) بسبب رفضها التواجد أمام المحكمة للكشف عن المصدر الذي زودها باسم “فاليري بليم” (Valerie Plame) على أنها عميلة لوكالة المخابرات المركزية (C I A). وقد أصرت الحكومة الأمريكية وقتها على أن نشر الخبر هدد الأمن القومي الأمريكي. وبرغم أن صحيفة النيويورك تايمز قد دافعت عن صحفيتها، وقالت إن الخبر قد تم نشره بموافقة هيئة تحرير الجريدة، إلا أن الجريدة ما لبثت أن تراجعت وهاجمت الصحفية ووجّه صحفيون ومسؤولون في هيئة التحرير انتقادات لها علنًا، ووصفها ثلاثة من محرري الصحيفة على الصفحة الأولى بأنها (تزرع البلبلة) قائلين إن (بعض زملائها يرفضون العمل معها). وكتبت "مورين دود" نقدًا لاذعًا بحق زميلتها تحت عنوان (امرأة الدمار الشامل)، قالت فيها (كان يجب أن تُكبَح على صعيد التحرير، لكنها تُركت بدون أي رادع على الإطلاق، وذلك أساء للصحيفة ولثقة قرائها). والشاهد هنا أن صحفية محترفة دخلت السجن وقضت فترة عقوبتها لخبر رأت الحكومة أن تسريبه يهدد أمنها القومي، ونحن هنا في مصر إزاء خبر قد يؤدي إلى العصف باستقرار البلاد رأسًا على عقب، ولا نلقي لهذا بالاً. لا أعرف جمال عبد الرحيم، ولكني شاهدته في لقاء فى التليفزيون المصري، وكانت صدمتي شديدة لطريقة كلام الرجل وأسلوبه. إنه من نفس مدرسة مرتضي والزند والنائب العام.. نفس الثقافة ونفس اللغة ونفس التعبيرات. إنها ثقافة تعيسة تراكمت عبر عقود الاستبداد والتجريف، قادتها نخبة فاسدة أمعنت في تشويه العقل المصري فهللت لأغاني (الطشت قال لى) وروايات الشذوذ والخلاعة وروجت لأنماط الاستهلاك وحرضت على فصل الدين عن الحياة وجاهدت أن تجعل رؤوس الأمة جهالاً ومجاهيل. هذه الثقافة ستحتاج لسنوات من الإصلاح والتهذيب، ولكن في الوقت الحالي نحتاج لقانون ينظم الممارسات الإعلامية ويخرجنا من هذه الفوضى المدمرة. د. محمد هشام راغب http://www.facebook.com/Dr.M.Hesham.Ragheb