عبر مجموعة من الثوابت الشرعية والعلمية والتاريخية والعملية التى تقرر أن الإنسان هو أساس كل عملية تنمية ونهضة. الإنسان يعمل بكامل طاقاته ويقدم أفضل ما لديه عندما يشعر ويعتز بذاته وشخصيته وهويته الخاصة به علمًا بأن الهوية تتكون من العديد من العناصر أهمها العقيدة، والقيم والتراث واللغة والأعراف، والتقاليد الخاصة. الهوية هى كل ما يشخص الذات ويحددها ويميزها عن غيرها، وتفرده وتميزه بسمات خاصة عن بقية المجتمعات, هى الوعاء الجامع لكل فئات المجتمع ونقطة تمركزه وانطلاقه، فهى "الأنا التاريخية والحالية والمستقبلية". مفهوم الهوية يعنى الوجود من عدمه، فهوية الشخص والمجتمع تعبرعن وجوده وحضوره ومكانه وأهميته فى الحياة. فتشتت أو ارتباك أو ضعف الهوية يعبر عن عدم حضور، وربما تلاشى وعدم وجود هذا الشخص أو المجتمع فى الحياة، وإن وجد ككيان مادى يشغل حيزًا ما فى المعمورة الأرضية، ولكنه ليس بحاضر لانعدام فاعليته وأثره فى الحياة. وفى المقابل قوة وصلابة الهوية فى ذاتها وفى نفوس أصحابها يعبر عن قوة وحضور وفاعلية هذا المجتمع وأثره فى الحياة، بل وقوته المتجددة الكامنة فى أعماق هويته القادرة على الفعل والإنجاز الحضارى بشكل متجدد. بمعنى أنا موجود وحاضر وفاعل لأن هويتى محددة وقوية وبارزة وفاعلة، والتى يجب أن نتعامل معها كأساس للبعث التنموى والنهضوى، وممر ذاتى وحيد لإقلاعنا وصعودنا الحضارى المرتقب. نظرية الأمن القومى التى تحدد المهام الأساسية الأربعة لأى نظام حاكم لمجتمع من المجتمعات، تقضى بأن مهامه الأربعة هى المحافظة على هوية الدولة وحريتها وسيادتها وفرص التنمية والاستقرار بها، بالإضافة إلى علاقاتها الخارجية التى تضمن مصالحه فى العالم. مجتمعات وأمم الأرض فى تدافع دائم إلى يوم القيامة، وهذه هى صيرورة الحياة.. ومن أهم أشكال هذا التدافع هو التدافع على الهوية، ومحاولة تذويب الهويات الأخرى وفرض الهوية الخاصة كأساس لاستعمار الآخر، واستنزاف موارده.. وتحقيق أفضل المنافع من خلاله. القيم والعلم هما أساس تطور وقوة أى مجتمع من المجتمعات الإنسانية. يعيش الإنسان بين تحديات وكبد دائم، عليه أن يعد ويؤهل وينمى نفسه باستمرار ليكون على مستوى هذه التحديات ويغالبها، ليحقق أهدافه وينجز لنفسه ما يكتب به تاريخه فى هذه الحياة، وبمثل هذه الثقافة تتحقق التنمية والنهضة. لكل محطة من محطات التاريخ الإنسانى تحدياتها الخاصة بها، والتى تأتى وفق ما وصلت إليه الحياة الإنسانية من علم وتقدم، بالإضافة إلى ما آلت إليه موازين القوى بين المجتمعات والأمم. كل مهمة من المهام، وكذلك مجموعة مهام المرحلة، تحتاج إلى موارد بشرية بمؤهلات وقدرات وصفات نوعية خاصة تواكبها وتستطيع تحقيقها.. فهناك مهام مرحلة التحرر بالجهاد والقتال، والتى تحتاج إلى صفات ومؤهلات خاصة بها، وهناك مهام مرحلة التنمية بالعلم والتكنولوجيا والعمل والمثابرة فتحتاج مؤهلات خاصة بها، وهناك مهام المراحل الانتقالية والحاجة إلى الوحدة والتعاون والتكامل والتعالى على الهويات والمطالب الخاصة لصالح الشأن العام، والصبر على عقبات التحول من عهد إلى عهد جديد والتى تحتاج إلى مؤهلات خاصة.. وهكذا. بمعنى: أن لكل مرحلة مهمتها الخاصة ولكل مهمة مواردها البشرية المناسبة لها.. والموارد البشرية هنا هى الكتلة الحرجة فى معادلة التنمية والنهوض، والتى تنقسم إلى جزأين: الأول: هو العنصر البشرى الفاعل مباشرة فى كل مجالات العمل والتنمية وتحقيق أرقام النمو والصعود والنهضة فى كل مجالات الحياة. الثانى: هو المجتمع الواعى المشارك بشكل غير مباشر لرعاية وتحفيز ودعم الجزء الأول. إعداد وتأهيل هذه الموارد البشرية لا يتم عشوائيًا، بل يحتاج إلى تفكير وتخطيط وتنفيذ؛ حتى يتم إنتاج هذه الموارد البشرية المطلوبة لتحقيق هذه المهمة، وتلك إذًا هى عملية تخطيط القيم وصناعة الهوية. تخطيط القيم وصناعة الهوية تتم عبر عدة مراحل كلية على الترتيب التالى: أولاً: تحديد المهام الأساسية الكبرى للمرحلة الحالية والمقبلة للمجتمع. ثانيًا: توصيف المؤهلات والقدرات والاستحقاقات والسمات المطلوبة فى الموارد البشرية اللازمة لتحقيق هذه المهام. ثالثًا: تحليل الواقع السلوكى والقيمى الحالى للمجتمع. رابعًا: اختيار و"صفَّ" منظومة القيم الملائمة. خامسًا: ترجمة منظومة القيم المستهدفة إلى مهارات وتطبيقات سلوكية فردية ومجتمعية مستهدفة. سادسًا: تحديد المسارات اللازمة لبناء وتعزيز وتمكين هذه المنظومة لتتحول إلى مكون رئيسى من شخصية وهوية واهتمام وسلوك المجتمع، ومعيار لضبط وتقويم سلوكه وإنجازه. سابعًا: تصميم المشروعات التنفيذية، ومؤشرات ومعايير أداء وإنجاز هذه المشاريع؛ للتأكد من تحقق الأهداف المنشودة، وبمعدلات كمية ونوعية مقبولة. عندما نقوم بهذا العمل وفق هذه المنهجية العلمية المنظمة ساعتها نستطيع أن نمتلك مجتمعًا واعيًا ومناصرًا ومؤيدًا ومشاركة بفاعلية فى تحقيق مهام تنمية ونهضة المجتمع، كل بحسب قدراته وإمكانياته، بالإضافة إلى امتلاك الكتلة البشرية الرئيسية العاملة والفاعلة بقوة فى تنمية كل مجالات الحياة العلمية والتربوية والإعلامية والاجتماعية والزراعية.. إلخ.. لتتكامل مع بعضها البعض وتحقيق ما يعرف بالنهضة المجتمعية الشاملة. ويمكن إيجاز الأهداف الاستراتيجية لتخطيط القيم وصناعة الهوية فى هدفين: الأول: المحافظة على بقاء المجتمع متماسكًا حرًا أبيًا معتزًا بذاته، والقدرة على صد محاولات الاختراق الثقافى والاجتماعى والتفكيك والتذويب لحساب ثقافات وهويات أخرى. الثانى: تعزيز القدرة الداخلية على الفعل والإنجاز الحضارى، حيث تمثل القيم التى يتبناها الفرد والمجتمع الهوية التى يعيش بها، ولها المصدر الأساسى لسلوكه وفعله وإنجازه، وكلما قويت هويته فى ذاتها وقويت بتمسكه واعتزازه بها كلما زادت القيمة المضافة للعنصر البشرى، الذى يتم إعداده وتقديمه لمواقع الفعل والإنجاز فى المجتمع، والعكس صحيح.