دأب مثيرو الفتنة من أقباط المهجر ومن مال إليهم واقتفى أثرهم على اتهام الدولة الإسلامية - عبر عصورها التاريخية المتعاقبة - باضطهاد النصارى وإذلالهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة، ومعاملتهم بوصفهم أدنى درجة من المسلمين، وقد يستند هؤلاء - تأييدًا لادعائهم الكاذب - إلى أحداث تاريخية اقتطعوها من سياقها، وزيفوا مضامينها وبواعثها الحقيقية، لإقناع الرأي العام في الداخل والخارج بأن الأقباط عاشوا حياتهم في مصر في ظل اضطهاد متواصل. ولأن الحقد الطائفي الأسود هو الذي يحركهم ويُشكّل مواقفهم من الإسلام والمسلمين - لا الحقيقة التاريخية المجردة التي لا تعرف دينًا أو جنسًا - نجدهم يتعمدون إخفاء آلاف من الشواهد التاريخية التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أهل الذمة - يهودًا ونصارى- تمتعوا بكل حرياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، وارتقوا في الجهاز الإداري والمالي للدولة، وتولوا كثيرًا من المناصب والوظائف المهمة، وكان لهم مطلق الحرية في تنظيم جماعاتهم داخليًّا تحت رئاسةٍ يختارونها في ظل روح الإسلام وتسامحه مع أهل الكتاب. تجاهل مثيرو الفتنة ومدبرو مؤامراتها هذه الحقائق التاريخية الموثقة التي شهد بها خصوم الإسلام وأعداؤه قبل المؤمنين به والمُنتسبين إليه؛ وما ذاك إلا لأن التعصب والحقد يحملان المرء على قراءة التاريخ بعين واحدة، ينتقي منه ما يخدم قضيته ويدعم موقفه، ويغض الطرف عما يهدم دعواه ويفند ما يروِّج له زورًا وبهتانًا. [راجع: ترتون، أهل الذمة في الإسلام، ترجمة: د. حسن حبشي، ومصر الإسلامية وأهل الذمة، د. سيدة إسماعيل كاشف، وأهل الذمة في مصر من الفتح الإسلامي حتى نهاية المماليك، د. قاسم عبده قاسم]. واتباعًا لخطتهم الفاسدة في قراءة التاريخ بعين واحدة - عين الحقد والتعصب - نراهم يتجاهلون مواقف كثيرة خان فيها "بعض" النصارى الوطن الذي يعيشون فيه، وتنكروا لأبنائه من المسلمين، وتحرقوا شوقًا إلى إذلالهم والانتقام منهم، لا لشيء إلا لأنهم يخالفونهم في الدين! لقد اختار هؤلاء الانحياز إلى الطائفية الدينية الضيقة، وأهدروا التفكير في قضايا الوطن الكبرى وأحداثه المصيرية. إن ديننا الحنيف يكره إثارة الفتنة، ويحذِّر من عاقبتها ويأمر بالتصدي لمثيريها تصديًا حازمًا؛ ولذلك فإننا نرجو من القارئ الكريم ألا يبادر بالحكم على هذه المقالة التي تسلط الضوء على عدد من المواقف الشائنة والتصرفات المُخزية لطائفة من الأقباط - بأننا نثير فتنة أو نُحرض عليها، غاية الأمر أننا نلفت نظر من يتهمون الإسلام والمسلمين باضطهاد الأقباط، إلى أن لدينا ما يمكن أن نتهمهم به لو أردنا. وإذا كانت التهمة الموجهة إلينا يمكن تفنيدها وإظهار بطلانها بالوقائع التاريخية الموثقة، فإن التهمة التي وجهها إليهم التاريخ - وهي تهمة الخيانة والعمالة والميل إلى الانتقام من المسلمين إذا سنحت لهم الفرصة - لا سبيل إلى إبراء ساحتهم منها، أو حتى تبريرها والتماس أعذار مقبولة عنها. وفيما يلي نسوق طائفة من الشواهد التاريخية القاطعة بأن الأقباط يقرأون التاريخ بعين واحدة، وهي مجرد نماذج، هناك غيرها الكثير: (1) كان أهل الذمة يشتغلون في مصر الإسلامية بمختلف وظائف الإدارة المالية، ومنهم من كان يتبوأ مناصب مرموقة أتاحت لهم سماحةُ الإسلام مع أهل الكتاب بلوغَها. على أن المؤرخين قد أشاروا إلى أن معظم هؤلاء الموظفين كانوا يسيئون إلى المسلمين، ويبعدونهم عن الدواوين والأعمال المختلفة، ويستخدمون مكانهم إخوانهم في الدين: يهودًا كانوا أم نصارى. ومن الشواهد التاريخية في هذا الصدد: ما حدث في عهد الخليفة الفاطمي الحافظ، فقد عين الأكرم بن زكريا القبطي رئيسًا للدواوين؛ فعزل المسلمين من مناصبهم، وجعل القبط مكانهم، فتشددوا مع المسلمين وضايقوهم في أرزاقهم، واستولوا على الأوقاف الدينية، بل إنهم اتخذوا العبيد والمماليك والجواري من المسلمين والمسلمات، وبلغ بهم الأمر أنهم اضطروا أحد المسلمين إلى بيع أولاده وبناته لغرامة فرضوها عليه [ترتون، أهل الذمة في الإسلام، ص (33)، وتاريخ أهل الذمة في مصر الإسلامية، د. فاطمة مصطفى عامر (1/460)]. والسؤال الذي نتوجه به إلى دُعاة الفتنة: تُرى مَنْ يضطهد مَنْ؟ ومن يحقد على مَنْ؟ (2) كانت الحروب الصليبية تجسيدًا لمشاعر الحقد الديني التي كان يحملها فريق من الأقباط في مصر والشام للمسلمين؛ حيث ثبت قيام بعض المسيحيين بأعمال تجسس لصالح القوى الصليبية [أهل الذمة في مصر، د. قاسم عبده قاسم، ص (173)] وبعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس سنة 1099م وقتلهم نحو سبعين ألف مسلم لم يشفع لهم احتماؤهم بالمسجد الأقصى، جاء النصارى واحتفلوا مع الصليبيين وهم يرددون: «إن الصليبيين قد خلصوا قبر ابن الرب من غير المؤمنين!». (3) وبعد استيلاء التتار على بلاد الشام سنة 658ه بالغ نصارى دمشق في إيذاء المسلمين وأمعنوا في إذلالهم [راجع: السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي (1/425)]. (4) ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى الموقف الشائن لنصارى بغداد من الخطر المغولي، فرغم أنهم كانوا يتمتعون بالطمأنينة في بغداد ويحظى رؤساؤهم بتقدير المسلمين واحترامهم، ويمارسون حياتهم الدينية في حرية كاملة، فإنهم سالموا المغول وتقربوا إليهم وتمكنوا من كسب عطف هولاكو بتأثير زوجته المسيحية دوكوز خاتون. وليت موقفهم اقتصر عند هذا الحد ولكنهم ضنوا بالحياة على بعض المسلمين عندما كان في قدرتهم تقديم المساعدة لهم. [محنة الإسلام الكبرى أو زوال الخلافة العباسية من بغداد على أيدي المغول، د. مصطفى طه بدر، ص (215، 216)]. (5) وفي سنة 663ه تآمر النصارى في مصر لتدمير مدينة القاهرة. [السلوك، للمقريزي (1/535)]. (6) وكذلك كان النصارى في العصر المملوكي يستفزون مشاعر المسلمين بالتظاهر بثرواتهم التي جمعوها من وراء توليهم وظائف الإدارة المالية في الدولة أمام أفراد الرعية المطحونين تحت أعباء الضرائب والمظالم التي فرضت عليهم في هذا الزمان. [أهل الذمة في مصر، د. قاسم عبده قاسم، ص (173)] ومرة ثانية نتساءل: من يضطهد من؟ (7) ومن الأمثلة التاريخية الدالة على تطاول بعض النصارى على الإسلام، ما كان في سنة 754ه حين حضر إلى القاهرة أحد نصارى مدينة الطور، وجعل يسُب الإسلام ويطعن فيه جهرًا، وطلب أن يتطهر بالقتل حتى يلحق بالشهداء على حد زعمه، فضربت عنقه وأُحرقت جثته [السلوك، للمقريزي (2/895)]. ومثله ما حدث في سنة 781ه حين قدم إلى القاهرة أحد رُهبان الطور، وأخذ يجهر بسب الإسلام، وكان معه رفيق له وثلاث نسوة، فضربت عنق الراهب، فأطلقت النسوة الثلاث زغاريدهن فرحًا واستبشارًا بقتل الراهب [السلوك، للمقريزي (3/373)]. (9) «يعقوب حنا» أو «يعقوب اللعين» الخائن الأشهر في تاريخ الأقباط: تُمثل قصة يعقوب حنا - أو كما أطلق عليه الجبرتي «يعقوب اللعين» - فصلاً مؤسفًا من فصول خيانة " قطاع" من الأقباط قضايا الوطن وتواطُئِهم مع المُستعمر الأجنبي. [راجع في قصة هذا الخائن: مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس، للجبرتي، د. أحمد حسين الصاوي، والمعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة، وأشهر الخونة في تاريخ مصر، ياسر ثابت]. لقد اختار المعلم يعقوب وأتباعه الانحياز إلى الغزاة الفرنسيين، والتنكر لشركاء الوطن من المسلمين، فاستحقوا منا ومن كل قارئ نزيه الاحتقار والازدراء. وما نخشاه أن يكون مثيرو الفتنة الطائفية هذه الأيام أتباعًا جُددًا للمعلم يعقوب اللعين، لا مجرد سفهاء لم يجدوا من يطلعهم على الحقائق ويبصرهم بالطريق السوي! واللهَ نسألُ أن يحمي هذا الوطن من مؤامرات الخونة والعملاء، ومن جهل السفهاء والغافلين؛ لتبقى مصر - كما كانت دائمًا - وطنًا للجميع، إن فرقت بينهم الأديان جمعتهم الأخوة الإنسانية التي رعاها الإسلام حق رعايتها. والله من وراء القصد