" وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين"(7) "وأصبح فؤاد أم موسي فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين" (10) الآيات من سورة القصص الخوف شعور يهز القلوب ويزلزل أركان النفس ويجعل الخائف يحس بان الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت. فما بالك إذا كان خوف الأم علي وليدها؟ هنا تعجز العبارة عن الوصف، غريزة الأمومة تزيد الشعور بالخوف أضعافاً مضاعفة، فإذا كان مصدر الخوف هو الفرعون الطاغية الذي يذبح أبناء بني إسرائيل بلا شفقة أو رحمه فماذا تفعل أم موسي؟ لقد استجابت للوحي الإلهي الذي أمرها أن ترضع ابنها ثم تنقله من يدها الحانية إلي يد الرحمة الإلهية فألقت به في اليم استجابة لذلك الهاتف الرباني الذي استحوذ عليها خاصة وقد تسلل إحساس غير عادي بالسكينة إلي قلبها أن الله العزيز القدير سيحفظ ابنها ويعيده إليها سالماً ويقدر له ما فيه الخير. وبعد مرور فترة قصيرة علي ذلك المشهد الاستثنائي غير العادي الذي تستجيب الأم فيه لخوفها علي طفلها بإلقائه في البحر لحمايته والحفاظ عليه، تعود الأم الملهوفة لمشاعرها الإنسانية البسيطة، وبعد اختفاء الطفل عن ناظريها في عرض البحر تدرك أبعاد الموقف علي ضوء الواقع المادي الملموس لقد خافت من خطر محتمل فألقت ابنها إلي خطر مؤكد، ما هو مصيره وسط أمواج البحر العاتية وحيتانه المفترسة وأنوائه المدمرة ؟ هنا يصور القرآن حالة أم موسي وشعورها تصويراً معجزاً " وأصبح فؤاد أم موسي فارغاً" فرغ قلبها من كل شيء وتجمد إحساسها عند نقطة واحدة : مصير وليدها. كان بداخلها عقل ووعي وإرادة، وكانت ككل إنسان يمتلئ قلبها بالمشاغل والآمال والمشاعر، الآن فرغت نفسها وقلبها من كل شيء فلم تعد تشعر إلا بالخواء وكأنما أصبحت تمثالاً أو هيكلاً آدمياً خالياً من المعني ومن الحياة. " إن كادت لتبدي به " تريد أن تصرح بالرغبة الوحيدة التي تتردد بين جوانحها " أعيدوا إلي ابني ، لقد ألقيته يا ناس في البحر فمن يعيده إلي ولو للحظة واحدة وليقتلني بعدها الفرعون وطفلي في حضني، فما أعذب الموت حينها؟ من قال إن الطفل ينفصل عن أمه بقطع الحبل السري بينهما؟ ما زال جزءا مني بل هو أعز وأغلي من نفسي". " لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين " ومرة أخري تشعر بالسكينة تتسلل إلي نفسها ويهدأ قلبها وقد امتلأ باليقين ، يقين الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالي والتسليم لقدره وترك الخيرة له ولا تلبث إلا قليلاً فتقر عينها بلقاء ابنها وتصبح مرضعته وتحيا معه في قصر الفرعون. من منا لا يصل إلي هذه الحالة ؟ فراغ القلب إلا من هاجس وحيد توقفت عنده الحياة، فإذا لجأنا إلي الله سبحانه وتعالي بإخلاص وحسن توكل تتنزل علينا السكينه والرحمة ويأتي الحل والفرج من حيث لا نتوقع ويحدث ما لم يخطر لنا ببال. نحن نحيا دائماً جزءاً محدوداً من حياة ثرية عريضة حافلة بالمفاجآت ، نري مشهداً واحداً من عرض شامل نشهد موقفاً عارضاً من تسلسل منطقي متتابع نلمس بعداً واحداً من أبعاد الحقيقة متعددة الأوجه، لذلك تستبد بنا المخاوف لأننا لا نعرف أبعاد الحكمة الإلهية، فأحياناً يكون الغرق هو السبيل الوحيد للنجاة، والخوف مقدمة ضرورية للأمان والفراق خطوة لالتئام الشمل واللقاء، كيف يتم ذلك ؟ هذا هو ما في علم علام الغيوب، الذي إذا أرد شيئاً فإنه يقول له كن فيكون، كل ما علينا هو التسليم لقدر الله والتوكل عليه والاستجابة لأمره وإن بدا صعباً علي النفس وبعد ذلك فإن السكينة والرحمة تتنزل علي نفوس المؤمنين وتتوالي عليهم جوائز السماء.