تعطي القصة في القرآن دورا بارزا لشخصية المرأة في الإطار العام للسياق القصصي التي وردت فيه، فهي تصورها في لحظة الفعل عبر مواقف تتسم بالانفعال، أو التفعل، أو الحياء أو الذكاء، أو قوة الإرادة أو الحب، أو عاطفة الأمومة، إلي غير ذلك من صفات ترتبط بوجدان المرأة ارتباطا وثيقا، وغلبة الوجدان علي طبيعة المرأة ليس عيبا فيها بقدر ما هو تأكيد علي طبيعتها الانفعالية، ذلك الانفعال الذي يعمق من شخصية المرأة ويحدد مسلكها وردود أفعالها، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنها محكومة به كالقدر لا يفارقها وإنما هو علامة عليها، تكتسب به، الرقة، وجمال المسلك أحيانا والجموح العاطفي أحيانا أخري. أنماط مختلفة والقرآن الكريم وهو يورد الأنماط المختلفة لشخصية المرأة لا يعني «برسم الخطوط الشكلية للشخصية وابراز ملامحها الخارجية، وإنما يكشف عن مزاج الشخصية، وعن دوافعها وانفعالاتها وسلوكها من خلال الوصف أو الأحداث»، ومن ثم تتحدد الدلالة علي المعني المراد، ويصبح الموقف كالمشهد المحسوس يكشف عن المعني العميق الذي يشير إلي التأسي بالشخصية الخيرة، والتنفير من الشخصية الشريرة، فضلا عن تطهير المشاعر من الانفعالات الوجدانية الغليظة. والأداء التعبيري المعجز في القرآن ينقل إلينا الإحساس الفياض بالمشاعر والانفعالات والتي تتحقق عبر الرصد لوجدان الشخصية في تفاعلها مع الموقف كمثير انفعالي يتطلب استجابة ما، ولعلنا نستطيع أن نقف علي بعض المشاعر الوجدانية عند المرأة - علي كثرة تنوعها وتفردها في القصص القرآني تمس هذا الجانب العميق الذي يتماس مع أدق الحواس صلة بالطبيعة والتكوين، وسنطوف معا حول قيمة وجدانية محددة ترتبط بعاطفة الأمومة كوجدان كبير يتدفق كالنهر يشمل كثيرا من الوجدانات الأخري ويغطي عليها وينحيها لتبرز هذه القيمة عالية متألقة، وشخصية أم موسي نموذج لهذه القيمة المتفردة، تلك القيمة التي تشغل الوجدان كله بما يتضمنه من حب وخوف وقلق ولهفة وترقب وتوتر، لقد اختلطت عواطفها وتميزت في توجهها في موقف عصيب، موقف الأم التي تنتظر بين لحظة وأخري أن يختطف ابنها ليراق دمه علي مذبح الآلهة، وليضمن ذلك الدم المراق مكانة فرعون ومنزلته العليا وسطوته من أن تخدش أو يطمع فيها طامع. ويصور القرآن الكريم هذا الموقف بما يصاحبه من دلالات نفسية في سورة القصص.. أم موسي قال تعالي: «وأوحينا إلي أم موسي أن أرضيعه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولاتخافي ولا تحزني، أنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين»، آية 7 وقال تعالي في نفس السورة أيضا: «وأصبح فؤاد أم موسي فارغا، إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون، وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم علي أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلي أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون» صدق الله العظيم. آيات 10 - 13 إن الجو العام الذي حملت فيه أم موسي بولدها كان يشي بالخوف وتوقع الموت في أية لحظة، وكانت الديار تئن تحت الترقب المصحوب بنزيف الدم وقطع الرءوس، ذلك أن فرعون قد أسر إليه بعض رجالاته بأن حياته وسلطانه مرتهنان بميلاد ذكر في بني إسرائيل، وأمام هذا الضعف والخوف من ضياع السلطة ومناوءة بني إسرائيل له، أمر بأن يذبح الذكور من بني إسرائيل بل ويستحيي نساءهم، وأمر الرجال والقوابل من النساء بالدوران علي البيوت وتقصي حالات الحوامل ومواعيد الوضع «فلا تلد امرأة ذكر إلا ذبحه أولئك الذباحون». ولأول مرة يصبح الحمل عبئا علي المرأة، لا تريده ولا تحبه، ويشتجر في داخلها صراع بين الرغبة والخوف، الرغبة في الولد والخوف عليه من الموت، إنه الوجدان المتمزق والشعور المسحوق بفعل سطوة الخوف. وحين شعرت أم موسي بحملها ضاقت الدنيا في عينيها، وتولاها الخوف، وضاقت به ذرعا وتمنت في دخيلة نفسها أن تتخلص منه، ولكنها لم تدر أن الله قد ادخرها لتكون رحما طاهرا لرسوله الذي صنعه علي عينه. واحترزت حين شعرت بالحمل، وحرصت ألا يظهر ما يدل عليه، وقللت من حركتها، وتباعدت عن العيون المتلصصة حتي إذا وضعته أخفته عن عيون فرعون، وكانت في كل لحظة تنتظر أن يأتي إليها النذير المشئوم.. وكان قلبها يتفطر حزنا علي هذا الوليد الصغير، فاتخذت تابوتًا صغيرا مربوطا بحبل، وكانت تضعه فيه وترسله في اليم كلما أحست بعيون فرعون حتي إذا ما ذهبوا استرجعته. أي هول تقوي عليه أم وهي تتوقع بين لحظة وأخري أن ينتزع ولديها من حضنها الدافئ ليذبح بأمر الفرعون، لقد شعرت الأم بالعجز المطلق أمام سطوة فرعون وعيون رجاله، وجاءها الوحي فكان بمثابة اطمئنان قلبي وإشارة إلي بشارة تحمل الفرحة وتبشر بالرسالة، ولنا أن نتصور قسوة الاختيار من جانب الأم أتحتضنه فيذبح بين يديها؟ أم تتركه يتلقي قدر الله وقضاءه؟ واختارت ما أوحي به الله لها. وكأنما تحرر وجدانها من الخوف الناشب في قلبها وتتلقي الإيحاء المطمئن وتلقي بولدها في اليم. ويسافر عقلها مع الطفل.. حتي كادت تكشف أمرها.. أصابها الهلع وشارفت علي الجنون هذا الوليد قطعة من اللحم يتخاطفه الموج ويترصده الموت أي موقف كهذا تمر به أم ولا تصاب بالجنون والهلع الشديد لقد طار عقلها من فرط الجزع وكادت تكشف عن نفسها لولا أن ربط الله علي قلبها ويصور القرآن هذا العقل الملتاث تصويرا مؤثرا إنه فؤاد فارغ لا عقل فيه ولا وعي وجاءها الرضا الإلهي فربط علي القلب وانظر إلي جمال الصورة في كلمة الربط إذ توضح مدي الجموح الانفعالي الذي وصلت إليه الأم. إنها تشبه في انفعالها الشيء المنفلت الذي يجب ربطه كي يقر ويطمئن ويحتويها القلق مرة أخري ولكنه قلق علي عاقل إن صح التعبير بعدما أدركت أنها تنفذ مشيئة الله فطلبت من ابنتها أن تتلمس خبره وتتابعه أخته من بعيد وتقف علي أخباره وعلي رفض موسي الوليد كل ثدي يقدم إليه.. لقد رفض الطعام واحتار أهل فرعون في أمره لقد حاولوا تغذيته بكل ما استطاعوا.. حتي إنهم أرسلوه مع «القوابل والنساء إلي السوق.. فتدلهم اخته إلي مرضع تكفله ويعود موسي إليها وقد رتبت لها رواتب وأجريت عليها النفقات والكساوي والهبات فرجعت به تحوزه إلي رحلها وقد جمع الله شمله بشملها. وتكتمل الدائرة وتتحقق المشيئة الإلهية ويعود للأم اطمئنانها ويصفو وجدانها ويتألق وهي تحتضن ابنها مكرمة معززة مصونة من كل بأس ويعلق المرحوم سيد قطب علي الموقف فيقول «يعود الطفل الغائب لأمه الملهوفة، معافي بدنه، مرموقا في مكانته يحميه فرعون وترعاة امرأته وتضطرب المخاوف من حوله وهو آمن قرير». وهكذا صور النص القرآني حال الأم في صورة بلغت حد الإعجاز واكتمل في هذا المشهد جوانب الصورة الإبداعية وهي تتناول وجدان الأم في أدق المواقف انفعالا وعصبية، وفي أرق المواقف اطمئنانا وأمانا، لقد تنوعت المشاعر واختلط السرد بالحوار والأمر بالاستغاثة والتشويق بالأمل والوعد بالتحقيق والفراق بالعودة والخوف بالأمان.. وكانت أم موسي نموذجا لشخصية الأم التي تحقق في داخلها الوجداني كل هذه المعاني والمشاعر الإنسانية. كما صورت الآيات القرآنية فرحة الأم البديلة - امرأة فرعون - تصويرا حيا إذ غزاها شوق المرأة للأمومة فأثمر حضنا دافئا حمي موسي وصانه من الغدر واستدعت الحب الكامن فحمته به من قسوة فرعون.