اليوم، السيسي يلقي كلمة في فعالية مسيرة استكمال مشروع محطة الضبعة النووية    نادي القضاة: انتخابات النواب 2025 لم يشرف عليها القضاة وأعضاء النيابة العامة    بعد انسحاب "قنديل" بالثالثة.. انسحاب "مهدي" من السباق الانتخابي في قوص بقنا    أخبار مصر: حدث عالمي يشهده السيسي وبوتين اليوم، حفل جوائز الكاف، "مجلس دولي" غير مسبوق لغزة، هل يهدد "ماربورج" مصر    أسعار الفراخ فى البورصة اليوم الأربعاء 19 نوفمبر    استشهاد 13 شخصا فى قصف الاحتلال الإسرائيلى لمخيم عين الحلوة    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    أبرزها دولة فازت باللقب 4 مرات، المنتخبات المتأهلة إلى الملحق الأوروبي لكأس العالم 2026    توقعات بسقوط أمطار وانخفاض في درجات الحرارة بمطروح والساحل الشمالي    محكمة الاتحاد الأوروبي تعتزم إصدار حكمها بشأن وضع أمازون كمنصة كبيرة جدا    طريقة عمل كيكة البرتقال الهشة بدون مضرب، وصفة سهلة ونتيجة مضمونة    زيلينسكي يزور تركيا لإحياء مساعي السلام في أوكرانيا    الاتصالات: الأكاديمية العسكرية توفر سبل الإقامة ل 30095 طالب بمبادرة الرواد الرقمين    أسعار الذهب اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025    خيرية أحمد، فاكهة السينما التي دخلت الفن لظروف أسرية وهذه قصة الرجل الوحيد في حياتها    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    أكثر من 30 إصابة في هجوم روسي بطائرات مسيرة على مدينة خاركيف شرق أوكرانيا    إسعاد يونس ومحمد إمام ومى عز الدين يوجهون رسائل دعم لتامر حسنى: الله يشفيك ويعافيك    ارتفاع أسعار الذهب في بداية تعاملات البورصة.. الأربعاء 19 نوفمبر    الرئيس السيسي: البلد لو اتهدت مش هتقوم... ومحتاجين 50 تريليون جنيه لحل أزماتها    البيت الأبيض: اتفاقية المعادن مع السعودية مماثلة لما أبرمناه مع الشركاء التجاريين الآخرين    بشري سارة للمعلمين والمديرين| 2000 جنيه حافز تدريس من أكتوبر 2026 وفق شروط    حقيقة ظهور فيروس ماربورج في مصر وهل الوضع أمن؟ متحدث الصحة يكشف    ترتيب الدوري الإيطالي قبل انطلاق الجولة القادمة    شبانة: الأهلي أغلق باب العودة أمام كهربا نهائيًا    أوكرانيا تطالب روسيا بتعويضات مناخية بقيمة 43 مليار دولار في كوب 30    شمال سيناء تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس النواب 2025    "النواب" و"الشيوخ" الأمريكي يصوتان لصالح الإفراج عن ملفات إبستين    النيابة العامة تُحوِّل المضبوطات الذهبية إلى احتياطي إستراتيجي للدولة    انقلاب جرار صيانة في محطة التوفيقية بالبحيرة.. وتوقف حركة القطارات    نشأت الديهي: لا تختاروا مرشحي الانتخابات على أساس المال    مصرع شاب وإصابة اثنين آخرين في انقلاب سيارتي تريلا بصحراوي الأقصر    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    مصرع شاب وإصابة اثنين في انقلاب سيارتي تريلا بالأقصر    في ذكرى رحيله.. أبرز أعمال مارسيل بروست التي استكشفت الزمن والذاكرة والهوية وطبيعة الإنسان    معرض «الأبد هو الآن» يضيء أهرامات الجيزة بليلة عالمية تجمع رموز الفن والثقافة    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    أسامة كمال: الجلوس دون تطوير لم يعد مقبولًا في زمن التكنولوجيا المتسارعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    أحمد الشناوي: الفار أنقذ الحكام    سويسرا تلحق بركب المتأهلين لكأس العالم 2026    شجار جماعي.. حادثة عنف بين جنود الجيش الإسرائيلي ووقوع إصابات    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    تحريات لكشف ملابسات العثور على جثة شخص في الطالبية    زيورخ السويسري يرد على المفاوضات مع لاعب الزمالك    أحمد فؤاد ل مصطفى محمد: عُد للدورى المصرى قبل أن يتجاوزك الزمن    جامعة طيبة التكنولوجية بالأقصر تطلق مؤتمرها الرابع لشباب التكنولوجيين منتصف ديسمبر    مشروبات طبيعية تساعد على النوم العميق للأطفال    فيلم وهم ل سميرة غزال وفرح طارق ضمن قائمة أفلام الطلبة فى مهرجان الفيوم    طيران الإمارات يطلب 65 طائرة إضافية من بوينغ 777X بقيمة 38 مليار دولار خلال معرض دبي للطيران 2025    هيئة الدواء: نعتزم ضخ 150 ألف عبوة من عقار الديجوكسين لعلاج أمراض القلب خلال الفترة المقبلة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: مقارنة المهور هي الوقود الذي يشعل نيران التكلفة في الزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرأة في فگر الجماعات الإسلامية المعاصرة
نشر في الأهالي يوم 24 - 03 - 2010

تحتل مشكلة المرأة مكانة بالغة الأهمية في تفكير الجماعات الإسلامية المعاصرة وممارساتها، ولا تتضح هذه المكانة المهمة في كتاباتهم المباشرة فحسب، بل إنها
تظهر أيضا، وبصورة لا تقل وضوحا، في عدد هائل من الأفكار غير المباشرة، وفي كثير من الأمثلة التي تعبر بها هذه الجماعات عن مواقفها النظرية والعملية. ولكن هذه المكانة المهمة لا تعبر، في الواقع، عن إعلاء لشأن المرأة، أو انشغال بمشاكلها الحقيقية، في فكر هذه الجماعات، بل إن هدفها الفعلي يسير في طريق مضاد تماما لما يوحي به للوهلة الأولي طابعها الظاهري، فهذا الاهتمام الكبير والتأكيد المستمر للموضوعات المتعلقة بالمرأة، ووضعها في الأسرة وعلاقتها بالرجل، يهدف في حقيقة الأمر إلي شيئين أساسيين: أولهما صرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية للمجتمع، والتغطية علي الرؤية السطحية لتلك المشكلات في فكر هذه الجماعات، وثانيهما تشويه مشكلات المرأة ذاتها والعودة بها إلي وضع شديد التخلف، كان يفترض أننا تجاوزناه منذ أمد بعيد.
ولنبدأ بكلمة عن الهدف الأول: ففي ندوة عقدت أخيرا في مبني نقابة الأطباء حول «الإسلام والعلمانية»، وشارك فيها كاتب هذه السطور، أراد الشيخ يوسف القرضاوي، وهو أحد كبار مفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، أن يضرب مثلا لابتعاد التشريعات الوضعية عن قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا الأصلية، فلم يجد إلا المثل الخاص بعقوبة الزنا، وهكذا تصور حالات افتراضية ارتكبت فيها الزنا دون أن يقضي القانون الوضعي فيها إلا بعقوبات طفيفة، وربما استطاع المحامي البارع أن يحصل لموكله فيها علي البراءة، ووجد أن هذا التساهل الذي يتسم به موقف القوانين الوضعية إزاء هذه الجريمة يتعارض بشدة مع القيم والأعراف السائدة في مجتمعاتنا، والتي تعبر عنها الشريعة الإسلامية تعبيرا أصدق حين تضع للزنا حدودا رادعة.
هذا المثل القريب العهد يحمل دلالات واضحة علي موقف التيارات الإسلامية المعاصرة من مشكلة المرأة:
الجنس هو المركز
فهو أولا يعبر عن اهتمام مبالغ فيه بهذه المشكلة، لأنه اختار موضوعا يتصل بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، لكي يثبت وجهة نظره القائلة إن القوانين الوضعية ليست مستمدة من قيمنا وأخلاقنا وموروثنا الأصيل، ولقد كان في استطاعته أن يختار أي موضوع آخر أوثق صلة بمشكلات الحياة الفعلية، وبالخبرات والتجارب التي يعيشها الناس في كل يوم، ولكنه انتقي هذا المثل، وافترض لكي يشرح وجهة نظره حالات خيالية يمكن أن يقع فيها الزنا دون أن ينال مرتكبه العقاب، وكأن الناس المطحونين بمشكلات الحياة اليومية والغلاء والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يفكرون إلا فيما يمكن أن يحدث لو صادفتهم واقعة الزنا، وهو ثانيا يستثير مشاعر الغيرة والاستنكار، لدي الرجل الشرقي بوجه خاص، عن طريق ضرب مثال تهدر فيه قيمة «الشرف» - بمعناها المألوف، الذي يفتقر كثيرا إلي الدقة - ويعجز القانون الوضعي عن فرض القصاص الرادع علي من يرتكب ذلك الفعل الذي هو في نظر الرجل الشرقي أفدح الآثام، وحين يتنبه المستمعون - ومعظمهم من الرجال - إلي أن الشريعة الإسلامية هي التي تفرض العقاب الرادع علي هذا الفعل الآثم، بينما القانون الوضعي يتهاون فيه، يصبحون مهيأين ذهنيا للاقتناع الكامل بالرأي الذي يدافع عنه المحاضر، وهو أن قواعد الشريعة ذات المصدر الإلهي هي الأقدر علي تنظيم حياتنا من أي قانون يضعه الإنسان.
هنا تُعطي إحدي المشكلات المتعلقة بالمرأة، في جانبها الجنسي علي وجه التحديد، أهمية هائلة، ويتكرر هذا النوع من الأمثلة بصورة ملحوظة في كتابات الإسلاميين المعاصرين وأحاديثهم، ولكن هذا الاهتمام المفرط يعكس في الواقع رغبة في التغطية علي المشكلات الحقيقية التي يعاني منها الإنسان، أيا كان جنسه، في المجتمع، ففي أي معالجة عقلانية لمشكلة كهذه، ينبغي علي الباحث، حتي لو كان يعتقد أن لمشكلة الزنا مثل هذه الأهمية، أن يعود إلي الجذور الاجتماعية للمشكلة، وبدلا من أن يسخر من القانون الوضعي لأنه يتهاون في عقوبة الزاني والزانية، أو أن ينظر إلي الجريمة وعقوبتها كما لو كانا شيئين مجردين لا علاقة لهما بالأوضاع التي يعيش فيها الإنسان، يتعين عليه أن يناقش مشكلة نقص المساكن والأسعار الخيالية التي تجعل أي مسكن بسيط بعيدا عن متناول أيدي معظم الشبان والشابات، واستحالة تكوين أسرة لدي النسبة الكبيرة ممن بلغوا سن الزواج، فضلا عن الغلاء العام للأسعار وصعوبة تربية الأطفال، وغير ذلك من العوامل التي يعاني منها الناس حقيقة، والتي تؤدي علي نحو متزايد إلي جعل الزواج المتكامل في مسكن مستقل «وهو أمر كان متاحا لمعظم الشباب والشابات فيما مضي» يتجه إلي أن يصبح وضعا طبقيا لا تقدر عليه، في بلد كمصر، إلا فئات محدودة في المجتمع، في ضوء هذه العوامل كان ينبغي النظر، أو علي الأصح إعادة النظر، في مشكلة الزنا لو كان الباحث يقيم وزنا للاعتبارات الإنسانية ويحرص علي التصدي الصريح للأسباب الحقيقية التي تكمن في جذور المشكلة، غير أن شيخنا الذي استقينا من كلماته هذا المثل اكتفي بالنظرة المجردة، المعزولة عن أي سياق اجتماعي، لظاهرة اختارها لأنها تؤدي إلي استفزاز مشاعر مستمعين لم يعتادوا استخدام عقولهم، وتعبر ظاهريا عن اهتمام بالغ لدي أقطاب الحركات الدينية المعاصرة بمشكلات المرأة، ولكنه في حقيقته اهتمام يؤدي إلي صرف أنظار الناس عن المشكلات التي يعانون منها بالفعل، ويعبر عن رؤية سطحية تجريدية للعلاقة بين المرأة والرجل، وما هذا إلا نموذج واحد لطريقة في المعالجة يسهل علينا أن نجد لها عددا هائلا من الأمثلة في الكتابات والخطب الناطقة بلسان التيارات الإسلامية المعاصرة.
تشويه الطبيعة
ولكن النقطة التي نود أن نركز جهدنا عليها هي أن ذلك الاهتمام الكبير الذي تبديه التيارات الإسلامية المعاصرة بموضوع المرأة، يخفي وراءه حركة تشويه واسعة النطاق لمشكلات المرأة، ورؤية شديدة التخلف لما يطلق عليه، بطريقة فضفاضة، اسم «طبيعة المرأة»، ويتمثل هذا التشويه في سلسلة من الازدواجيات التي يجمع كل منها بين متناقضين، أحدهما هو الذي يعلن علي الملأ، والآخر هو المقصد الحقيقي الباطن، الذي لا يصرح به في العلن.
1- ازدواجية التحرر والعبودية
من أبرز سمات الحكم الدكتاتوري أن الحاكم فيه يتملق شعبه، علي المستوي اللفظي، أي علي مستوي الخطب والبيانات ويكيل المديح له في جميع المناسبات، ولكنه في قرارة نفسه يحتقر شعبه أشد الاحتقار، ولا يقيم له وزنا في قراراته، وكلما أمعن في التنكيل به، ازداد تملقا له، متوهما أنه يداري بذلك إذلاله لشعبه واضطهاده له، وكلنا نعلم أن أشد الحكام ترفعا عن شعوبهم لا يكفون عن وصف هذه الشعوب بأنها ذكية وحكيمة وأصيلة وطيبة إلخ.
ويمكن القول إن شيئا مماثلا لهذا يحدث في موقف الحركات الإسلامية المعاصرة من المرأة، فكل دعوة تحاول من خلالها هذه الجماعات أن تحصر المرأة في إطار ضيق لا تخرج عليه، وتضمن استمرار خضوعها للرجل، ومكانتها الثانوية أو الهامشية بالنسبة إليه، تقدم في إطار من التمجيد والتكريم، وتعرض كما لو كانت هي التي تحقق أكبر قدر من التحرر للمرأة.
فحياة المرأة وفقا لهذا النوع من التفكير، ينبغي أن يكون محورها الأساسي بعدا واحدا، هو البعد العائلي، علي حين أن للرجل، إلي جانب البعد العائلي، أبعادا اجتماعية وسياسية.. إلخ.. ولكن هذا الانكماش في دور المرأة، والتضييق الشديد للإطار الذي يفرش عليها أن تتحرك فيه، يغلف عادة بعبارات الإطراء والإغراء الشديد، التي تمتدح الدور العظيم للأم والزوجة والأخت، وتؤكد أهمية دور المرأة داخل الأسرة بوصفها نواة لتوحيد جميع أفرادها ومصدرا يستمد منه الجميع الدفء والحنان.. إلخ.. وفي جميع الأحوال تقريبا ولا يعرض إلا هذا الجانب الأخير من القضية، ذلك الجانب الذي يمتدح الدور العائلي للمرأة ويتملق مشاعرها، ولا ترد أي إشارة إلي النتائج المترتبة علي هذا الوضع، وأعني بها استمرار اعتماد المرأة، اقتصاديا واجتماعيا وعقليا، علي الرجل، مما يتيح له إحكام سيرته عليها ويضمن حل جميع المواقف المعقدة في علاقتهما لصالحه.
وعلي حين أن النتيجة العملية لهذه الدعوة إلي ارتباط المرأة بالعائلة وحدها وانتماء الرجل إلي جميع الميادين الأخري لنشاط المجتمع، هي تأكيد لتفوق الرجل ووصايته علي المرأة فإن هذه الوصاية تغلّف عادة بالمبالغة في امتداح الدور التقليدي للمرأة، ووصفه بعبارات ظاهرها الإطراء وباطنها النفاق، ولعل أكثر هذه الأوصاف شيوعا، في كتابات الإسلاميين المعاصرين عن المرأة، هو وصف «الجوهرة المصونة»، كناية عن ضرورة المحافظة علي المرأة في إطارها العائلي الخاص، بعيدا عن تعقيدات الحياة وصعوبات المجتمع، فالمرأة هي «ربة الصون والعفاف»، وهما، حتي لو أخذا بمعناهما الظاهري، صفتان سلبيتان تتعلقان بحماية المرأة لنفسها، أو حماية النظام الاجتماعي لها، من رذائل معينة، ولكنهما لا تدلان مطلقا علي قيام المرأة بأي دور إيجابي أو اقتحامها لأي ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية، إن المرأة لا تكون مصونة، أو «ربة الصون» إلا لأنها معزولة عن المجتمع، وبالفعل فإن الدعوة تتجه إلينا، نحن الرجال، لكي «نصونها»، أي نحافظ عليها في حالة ابتعاد عن خصم الحياة ومعترك المشاكل الاجتماعية، بما تستلزمه من اختلاط واندماج وضياع «للصون» وربما خدش للعفاف.
الملكية المصونة
إن «الجوهرة المصونة» هي في المحل الأول شيء قيم يمتلك ويحرص مالكه علي أن يحافظ عليه، ومن هنا فإن النظرة الكامنة من وراء هذا المديح تنطوي علي «تشيؤ» المرأة، أي إحالتها إلي شيء ينبغي أن يحفظ ويصان، حتي يظل، في نظر مالكه، محتفظا بقيمته، ومهما بدت العبارة براقة، ومهما كانت تنطوي في ظاهرها علي امتداح للمرأة ورغبة في المحافظة عليها، فإن المحافظة التي تدعو إليها العبارة هي من ذلك النوع الذي نتعامل به مع «الأشياء»، أي ما نمتلك من نفائس، وأبسط دليل علي ذلك هو أن أحدا لا يفكر في امتداح الرجل لأنه «مصون».. ذلك لأن الرجل هو الذي يتولي اقتحام ميادين الحياة وخوض معاركها، ومن ثم يتعين عليه أن يخرج من إطار «الصون» لكي يسلك في حياته سلوكا إيجابيا فعالا.
إنه مثال واحد لموقف يتكرر مرارا في كتابات أقطاب الحركة الإسلامية المعاصرة وأحاديثهم عن المرأة، ذلك الموقف الذي يتسم بازدواجية، ظاهرها التمجيد وباطنها القهر والإذلال، فالدعوة في حقيقتها استمرار للوضع المتدني أو الهامشي للمرأة، ولكنها لا تصاغ أبدا بصورتها الصريحة، بل تعرض دائما كما لو كانت تمثل قمة التحرر وأقصي مظاهر التكريم.
وفي الحالات التي يوجه فيها انتقاد شديد، بلغة عصرية، إلي هذا الربط بين كيان المرأة وفكرة الصون، ويكشف المضمون المتخلف لهذه الدعوة، فإن المدافعين عن هذا الموقف يتخذون لأنفسهم موقعا غير متوقع، يتصورون أنه كاف لإقناع العقول بأن آراءهم تمثل ذروة التحرر بالنسبة إلي المرأة: إذ يتجهون علي الفور إلي المقارنة بين وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الجاهلية، لكي يثبتوا أنها قد أحرزت مكاسب هائلة، ولا أجد نفسي في حاجة إلي أن أقتبس إشارات في كتابات هؤلاء الإسلاميين، إلي تلك المقارنة المتكررة بين الجاهلية والإسلام، كلما نوقشت مشكلة المرأة، لأن أي قارئ لديه أبسط إلمام بما يقوله الإسلاميون المعاصرون عن المرأة في كتبهم وأحاديثهم وندواتهم وخطبهم، لابد أنه صادف مثل هذه المقارنة مئات المرات، ومع ذلك فإن أحدا من هؤلاء الدعاة لا يكلف نفسه عناء التساؤل: ما لنا نحن والجاهلية؟ وهل يمكن أن نحصر مشكلة المرأة العصرية، التي تعيش حياة معقدة تكتنفها الصعوبات والمشاكل من كل جانب، في إطار المقارنة مع وضعها في عصر شبه بدائي مضت عليه عشرات القرون؟ وهل وجود المرأة في وضع أفضل مما كانت عليه في عصر الجاهلية، يكفي لكي نقتنع في عصرنا الحالي بأنها قد تحررت بالفعل؟.
هذا، علي أي حال، نموذج لطريقة الإسلاميين المعاصرين في التفكير، وهو كما قلنا مثل صارخ للازدواجية بين ادعاء تحرير المرأة، علي المستوي الكلامي واللفظي، ووضعها المقهور علي مستوي الواقع الفعلي.
2- ازدواجية العاطفة والعقل:
تؤكد كتابات الإسلاميين السمات العاطفية للمرأة، ويتخذ هذا التأكيد بدوره طابعا مزدوجا: فمن جهة تعد عاطفية المرأة عنصرا إيجابيا جديرا بالإشادة والتمجيد، ذلك أن عنصر العاطفة هو الذي يبعث في الأسرة مشاعر الحنان والدفء والرعاية والحب، أي أنه هو القوة الجاذبة التي تعمل علي تحقيق التماسك والمودة والتراحم في الأسرة، غير أن عاطفية المرأة توضع في مقابل عقلانية الرجل: إذ تُنسب إلي الرجل القدرة علي اتخاذ القرار والبت في الأمور الحاسمة والتوجيه العام لدفة الحياة العائلية، علي حين أن المرأة «تكمل» الرجل بأن تضيف إلي عقلانيته عنصر الرقة والحساسية، فتكتمل - من خلال هذا التقسيم للقدرات والملكات بين الجنسين - مقومات الحياة العائلية، وربما تغزل البعض في هذه العاطفية المفرطة، بوصفها ضعفا ظاهريا يخفي وراءه قوة، وربما تحدثوا عن انقلاب الأدوار بين الرجل والمرأة، حيث تستطيع المرأة أن تتحكم في الرجل من خلال «دموعها» أي أن تمارس عليه القوة باتخاذ مظهر العنف، ولكن المهم أن سمة «العاطفية» تعد في هذه الحالة صفة إيجابية يمتدحها الرجل في المرأة.
علي أن التقابل بين عاطفية المرأة وعقلانية الرجل لابد أن يؤدي إلي ظهور الوجه الآخر للصورة المزدوجة، وأعني به ذلك الوجه الذي يربط بين سيطرة العاطفة عند المرأة، وسيادة النزعة اللاعقلانية في تفكيرها، وسيطرة الاندفاع والهوي والعاطفة «بالمعني السلبي هذا المرة» علي نظرتها إلي الأمور، والعجز عن إصدار حكم موضوعي منزه عن الأهواء والأغراض، ويجد هذا الوجه الآخر دعما من التراث الديني عندما يحكم علي النساء بأنهن «ناقصات عقل ودين»، ويحظر علي المرأة تولي شئون القضاء، ولا تقبل شهادتها أمام المحاكم إلا باعتبارها مساوية لشهادة «نصف رجل».
وربما استطاع أصحاب هذا الرأي أن يضيفوا إليه صفة تزعم أنها علمية، إذ يشيرون إلي بحوث تؤكد بطريقة إحصائية، مثلا، أن الأحكام الانفعالية أكثر شيوعا لدي المرأة، ويقفزون من هذه المقدمات إلي تعميم متسرع، هو أن المرأة «بطبيعتها» عاطفية، ولكن مثل هذا التعميم يفقد تماما شروط الحكم العلمي لأنه من المستحيل الكلام عن «طبيعة» لأحد الجنسين بعد هذا التاريخ الطويل من سيطرة الرجل وتركه الأعمال الهامشية للمرأة، وبعد أن تراكمت عوامل التنشئة الاجتماعية، عبر ألوف السنين لكي تفرض علي المرأة هذه الاتجاهات العاطفية فرضا، وبطبيعة الحال فإنه من السهل الخلط بين ما يرجع إلي عوامل اجتماعية وما يرجع إلي عوامل «طبيعية» ثابتة عندما يكون الأمر متعلقا بأوضاع دامت ألوف السنين، ومن هنا فإن المنطق السليم لا يرفض القول إن ما يسمي ب «عاطفية المرأة» إنما هو ظاهرة اجتماعية، وليس علي الإطلاق جزءا من طبيعة ثابتة للمرأة.
ولابد لنا أن نعترف بأن هذه النظرة الازدواجية إلي سمة «العاطفية» في المرأة، لا تقتصر علي الاتجاهات الإسلامية المعاصرة وحدها، بل إنها ترجع إلي تاريخ طويل، وتشيع في العصر الحاضر بين اتجاهات فكرية متعددة، تشترك كلها في الخلط بين العوامل الناتجة عن تأثير أوضاع اجتماعية واقتصادية للمرأة، كانعدام الاستقلال والمركز الأدني في التشريع والشعور الدائم بالعجز وعدم الأمان، وبين العناصر التي تنتمي إلي «طبيعة ثابتة»، ومع ذلك فإن الاتجاهات الإسلامية تستثمر هذا الخلط وتستخلص منه نتائج مهمة، تظهر فيها ازدواجيتها التقليدية بوضوح: إذ تمتدح المرأة بوصفها القلب النابض بالحنان والعاطفة في الأسرة، وتطالبها في الوقت ذاته بأن تلتزم هذه الحدود وتترك للرجل زمام القيادة والقوامة وسلطة اتخاذ القرار.
البقية العدد القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.