تقول لك "آن باترسون" المندوبة السامية الأمريكية فى القاهرة: "إن الشيخ عمر عبد الرحمن لن يعود إلى مصر أبداً".. ومن قبلها زأرت مسز "هيلارى كلينتون" غضباً عندما تعهد الدكتور مرسى فى خطبته الأولى بميدان التحرير بأنه سيسعى للإفراج عن الشيخ الأسير المريض كى يقضى ما تبقى له من أيام فى وطنه وبين أهله، وقالت سيادتها إن القضاء الأمريكى "المستقل" أدان الرجل وإن الجريمة ثابتة فى حقه وإنه سيقضى ما تبقى له من عمر فى زنزانته الأمريكية. ونحن نعلم أن العالم الأزهرى تم ضبطه بالجرم المشهود، ونقر ونعترف بأنه ارتكب جناية ما كان يمكن معها تبرئته، والأدلة عليها حاضرة دامغة بل ربما جرت تفاصيلها على لسانه أثناء محاكمته أمام القضاء الأمريكى، فتلك عادة الشيخ وقد فعلها خلال مرافعته عن نفسه فى قضية اغتيال السادات حتى نبهته المحكمة وحذره البعض من أنه يلف بنفسه حبل المشنقة حول رقبته، لكنه أبى أن يكتم ما أنزل الله من الكتاب ولو كان فى ذلك حتفه. نعلم تماماً أن جريمة الشيخ الحقيقية والثابتة هى كفره بالإسلام الأمريكى منزوع الدسم تائه الخطا مقطوع الذراعين مذبذب الولاء، ورفضه أن يغمض بصيرته عن الجرائم التى ترتكبها قوى الاستكبار العالمى وعملاؤها فى المنطقة ليغرق سامعيه فى تفاصيل فقه منفصل عن واقع الحياة، وعزوفه عن أن يصفه الأمريكيون ومن والاهم بالشيخ "المعتدل"، فيسمى انحراف الولاء كياسة وانسحاق البراء سياسة، وهكذا انطلقت كلماته زاعقة صارخة مدوية تسقط القناع عن الجميع وتسمى الأشياء بما سماها به الحق سبحانه وتعالى: فالردة ردة والنفاق نفاق وجهاد المحتلين فرض عين والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وهكذا تلبّس الرجل بالجرم المشهود فاستحق بجدارة حكماً بالسجن مدى الحياة. ونحن لا نجادل فيما قالته مبعوثتا العناية الأمريكية لنصرة حقوق الإنسان فى بلادنا، لكننا فقط نذكرهما بواقعة قديمة شهدها قضاؤهما الأمريكى "المستقل".. ففى ستينيات القرن العشرين، كان الأمريكان يخوضون واحدة من حروبهم القذرة على سطح الكرة الأرضية، كانت وقائع الحرب الدائرة فى فيتنام فى ذلك الوقت قد عرت الشعب الأمريكى المتشدق بالحرية أمام نفسه وكشفت له مدى القبح الحضارى المتوارى خلف تقدمه العلمى والاقتصادى، وكانت الصورة التى نشرتها إحدى المجلات لفتاة تحمل جمجمة فيتنامى قتيل أرسلها لها للذكرى خطيبها الجندى من جبهة القتال، قد أرقت بعض الضمائر الحية التى هالها ما قذفته تلك الحرب فى وجوههم من أدران الهمجية التى ليس لها مثيل – والتى ستتكرر بعد عقود فى أفغانستان وجوانتانامو وأبو غريب وغيرها – فلقد هدمت المنازل وحرقّت الحقول واغتصبت الفتيات وذُبحت الأمهات، بينما أطفالهن متشبثون بأرجلهن وتسلى الجنود فى غربتهم بإطلاق الكلاب المتوحشة لتمزيق لحوم الضحايا وهم أحياء، كما قاموا ببتر الأصابع والآذان والأعضاء التناسلية لأسرى وقتلى ليحتفظوا بها كذكرى لتلك الرحلة. حاولت أمريكا إخفاء ملامح جرائم الحرب الفيتنامية والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبها جنودها طويلاً، لكن صوراً التقطت ونشرت فى بلاد أخرى أحرجت الإدارة الأمريكية التى خشيت على "مصداقيتها" الخارجية، فبدأت المحاكمات التى انتهت بتبرئة جميع المتورطين لعدم كفاية الأدلة على أنهم هم الذين ارتكبوا تلك المذابح أو أن من احتفظوا بأجزاء لكائنات بشرية هم أنفسهم الذين بتروها... إلخ، غير أن القضاء أدان ضابطاً شاباً فقط هو الملازم "وليام كيلي" الذى ثبت من شهادات موثقة أنه أباد سكان قرية "ماى لاي" بأكملها حيث اقتحمها بفرقته فلم يجدوا فيها غير النساء والعجائز والأطفال فقاموا بحرق البيوت وتجميع خمسمائة إنسان ثم قتلهم فى مذبحة تاريخية مروعة اعترف بها أثناء محاكمته، مؤكداً أنه لم يرتكب خطأ وإنما أدى واجبه فقط! انتهت المحاكمة بإدانة "كيلي" وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، غير أن ما حدث بعد ذلك كان هو العجيب حقاً: إذ رفض الرأى العام الأمريكى قبول حكم القضاء وانتفض الجميع دفاعاً عن الضابط الشاب، فبدأت رسائل المواطنين تنهال على البيت الأبيض، وقادت جمعية قدامى المحاربين الأمريكية حملة مضادة للحكم تحت عنوان "أطلقوا كيلي" جمعت فيها التبرعات لدعم القضية ولتكريم الرجل! واستقال موظفون حكوميون تضامناً معه، فيما انبرى بعض الساسة للدفاع عنه وكان منهم جيمى كارتر رئيس الجمهورية لاحقاً، كما اندلعت فى كل مكان المظاهرات المناهضة للحكم للضغط على الرئيس نيكسون الذى استجاب وتدخل للإفراج عنه ووضعه تحت الإقامة الجبرية فى منزله حتى تم العفو عنه نهائياً بعد ثلاثة أعوام فقط، وقد تجاهلت الإدارة الأمريكية اعتراضات المدعى العام الذى انتقد التدخل الرئاسى للإفراج عن كيلى بعد أن أدانه القضاء الأمريكى "المستقل".. السيدتان كلينتون وباترسون: نحن نعلم أن قضاءكم "مستقل"، ونعلم أن الشيخ البصير الأسير قد ارتكب الجريمة التى لا تغفرونها أبداً وهى الدعوة للإسلام الحقيقى ورفض الإسلام الأمريكى، لكن ألا تريان أن تشابهاً ما بين واقعتى "كيلي" و"عمر" ينبغى أن يوضع فى الاعتبار؟ فمازالت دولتكم "العظمى"، كما كانت، تؤجج نيران الحروب فى كل مكان، ومازالت حروبكم قذرة، كما كانت دائماً، كما أن كلا الرجلين اعترف بجريمته معتزاً بها مصراً عليها وكلاهما أدانه القضاء الأمريكى "المستقل" وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، فلماذا أطلقتم سراح الشاب وتصرون على بقاء الشيخ حتى يموت فى محبسه؟ أم تراها "جريمة الإسلام" أشد وطأة على نفوسكم من جرائم إبادة الشعوب واغتصاب الصبايا وذبح النساء والشيوخ والأطفال؟