خلال السنوات الثلاث التي تعرضت فيها لسجون الرئيس حسني مبارك (2000-2003) لاحظت ضمن ظواهر عديدة وغريبة نمطاً متواتراً ومتكرراً” ألا وهو قضية أمن دولة يصاحبها صخب إعلامي هائل” ويقبض خلاله علي مجموعة من الأشخاص معظمهم شباب تأتي بهم السلطات إلي أحد سجون طره التي جربت أنا شخصياً ثلاثة منها” وتوجه لهم تهم غليظة تتراوح عقوبتها” لو ثبتت عليهم” ما بين ثلاث سنوات وخمس وعشرين سنة. والطريف أن معظم هذه القضايا” إن لم تكن جميعها” يتضح بعد ذلك أنها قضايا ملفقة” أو ينقصها أدلة دامغة” أو أن قوانين تجريمها غير دستورية. وأثناء وجودي في سجون طره” مرت عليّ من هذه القضايا الآتي: قضية عبدة الشيطان” وقضية أنصار الشيخة منال” وقضية الشواذ” وقضية القرآنيون” وقضية منكري السنة” وقضية التنظيم الشيعي. وهذه الأخيرة هي موضوع هذا المقال. بعد نشر مقالي اعتذار للأقليات في العالم العربي “ في المصري اليوم (17/9/2005)” انهالت عليّ الرسائل والمكالمات الهاتفية” معظمها يثني ويحيي” وبعضها يستنكر ويمتعض من مجرد وجود أقليات “ ويستنكر الاعتذار لها” وقال أحدها يحمدوا الله أننا (أي الأغلبية المسلمة العربية السنية) لم نقم بإبادتهم !. ثم جاءتني رسائل مستفيضة بالفاكس” تلتها زيارات شخصية لعشرات من المصريين المسلمين الشيعة” كان أهمها السيد محمد الدريني” أمين عام المجلس الأعلي لرعاية آل البيت” الذي اعتقل منذ حوالي سنتين” بتهمة الانتماء إلي المذهب الشيعي” إلي أن تدخلت مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان” وأصدرت القرار رقم 5 لسنة 2005” الذي أدان اعتقال الدريني” ووصف موقف وزير الداخلية بالالتفاف علي القانون. وكانت أهمية لقاء محمد الدريني أن الرجل لا يتحدث إلا بالوثائق والأسانيد. فما هي مظاهر اضطهاد الشيعة في مصر” في عصر الرئيس حسني مبارك” وما هي جذور مشكلتهم- بداية” ارتبط ظهور المذهب الشيعي بالفتنة الكبري” في منتصف القرن الهجري الأول” حيث انقسم المسلمون الأوائل حول مسألة أحقية ومشروعية من يخلف الرسول محمد (صلي الله عليه وسلم)” في حكم الدولة الإسلامية الفتية. فقد كان هناك من يعتقدون أن الخلافة يجب أن تكون شوري بين الصحابة (أي أقرب إلي الانتخابات بلغة عصرنا). وكان هناك من يعتقدون أن الخلافة ينبغي أن تظل بالوراثة في آل بيت الرسول الكريم” وهم: علي ابن عمه” وزوج ابنته فاطمة وحفيديه” الحسن والحسين. وكان هناك فريق ثالث” خرج عن رأي الفريقين. وتحول خلاف المسلمين الأوائل حول هذه المسألة إلي صراع مسلح” أريق فيه دماء غزيرة” علي امتداد أربعة عشر قرنا” هي مجمل التاريخ الإسلامي. المهم في هذه العجالة التاريخية أن من اعتقدوا في مبدأ الوراثة لآل البيت النبوي” وتشيعوا” أي ناصروا” الخليفة الراشد الرابع” علي بن أبي طالب” في صراعه مع المنشقين علي خلافته بقيادة معاوية بن أبي سفيان” هم من الذين أصبح يطلق عليهم أنصار أو أبناء المذهب الشيعي. وحُسم الصراع المسلح لصالح معاوية وأسرته التي توارثت الحكم من بعده” وهي الأسرة الأموية” علي نحو ما نعرف من كتب التاريخ. ولكن حسم الصراع المسلح شيء” والاختلاف في العقيدة شيء آخر” لا يمكن حسمه بالاقتتال والاعتقال. وذلك بدليل أن من تشيعوا لعلي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين” وذريتهم من بعدهم” ظلوا علي معتقداتهم رغم خسائرهم السياسية وهزائمهم العسكرية خلال القرون المتعاقبة. صحيح أنه في عدد محدود للغاية من البلدان الإسلامية” وصل عدد من الحكام الذين يدينون بالمذهب الشيعي إلي قمة السلطة. من ذلك ما حدث في القرنين التاسع والعاشر الميلادي من وصول الفاطميين إلي السلطة في بلدان المغرب العربي” والذي توجه الفاطميون بغزو مصر” وجعلها مقراً لخلافتهم. فهم الذين بنوا مدينة القاهرة (969م) بواسطة أحد قادتهم العظام وهو جوهر الصقلي” لكي تصبح عاصمة الخلافة الفاطمية الشيعية. وكان ضمن أهم معالم عاصمة الفاطميين الجديدة” تشييد الجامع الأزهر “ والذي أخذ هذا الاسم تيمناً بالسيدة فاطمة الزهراء “ التي هي بنت الرسول وزوجة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب” وأم ابنيه الحسن والحسين. وتحول المصريون المسلمون أثناء حكم الفاطميين إلي المذهب الشيعي. وكان الأزهر هو منارة هذا المذهب خلال القرون الثلاثة التالية. ولم يكن ذلك غريباً بالمرة فالناس علي دين ملوكهم !. ولكن كما يقول عالم الاجتماع المصري الراحل” الدكتور سيد عويس” أن المذهب الشيعي لقي ميلاً حقيقياً لدي المصريين” مسلمين منهم وأقباطاً. لماذا- يذهب العالم الجليل إلي أن قصة التنكيل بالحسن والحسين” ثم استشهاد الحسين والتمثيل بجثته” استدعت بهولها للمصريين جميعاً الأسطورة المصرية القديمة لإيزيس وأوزوريس” والشقيق الشرير (ست)” كما استدعت القصة للأقباط خصوصاً” مشهد تعذيب وصلب المسيح عليه السلام. ففي القصص الثلاث هناك الخير “ الذي تمثل في أوزوريس” والمسيح والحسين. وهناك الشر “ الذي تمثل في ست” الذي قتل ومزق جسد أوزوريس” ونثر أجزاء هذا الجسد علي كل أرجاء مصر” وهناك ياهوزا الإسقريوطي” الذي وشي بالسيد المسيح لدي الرومان واليهود” فعذبوه وصلبوه حتي استشهد” قبل أن يبعث بعد ذلك حيا.. وبالمثل تمثل الشر في يزيد ابن معاوية في المشهد الحسيني يوم عاشوراء. وفي المشاهد الثلاثة كانت هناك دائماً الرحمة والحنان متمثلة في امرأة طاهرة هي إيزيس” ومريم البتول” وفاطمة الزهراء. ويذهب د. سيد عويس إلي أنه حتي بعد أن انحسر المذهب الشيعي رسمياً” مع تغير الملوك والخلفاء” الذين أعادوا المذهب السني” فقد ظل المصريون بقلوبهم من أحباء أهل البيت” أي من المتشيعين لهم” أي أنهم شيعة قلباً “ حتي لو كانوا أو تظاهروا بأنهم سنة قالباً . وربما يفسر ذلك أن موالد آل البيت هي الأشهر والأكبر” بدءاً من مولد الحسين” إلي السيدة زينب” إلي السيدة عائشة” إلي السيدة نفيسة. ومن هنا أيضاً اعتزاز آلاف المصريين بانتسابهم إلي الأشراف “ ولجوء ملايين من المصريين إلي اختلاق أو اصطناع مثل هذا النسب. ومن هنا نجد أن المجلس الأعلي لآل البيت وجمعياته الفرعية تضم في عضويتها أكثر من أربعة ملايين عضو. والخط الفاصل بين آل البيت والشيعة” هو خط وهمي. فمعظم أولئك وهؤلاء يحملون نفس المشاعر والمعتقدات. ورغم ذلك ورغم تراث مصر الشيعي العريق إلا أن السلطات الأمنية المصرية يحلو لها أن تجعل من هذه المسألة الوحدانية العقيدية قضية أمن دولة “ فتلقي القبض علي المتحدثين أو النشطين من آل البيت” بتهمة الانتماء إلي تنظيم شيعي يهدف إلي قلب نظام الحكم. وكالعادة حينما يتم القبض علي هؤلاء فهم يتعرضون للتعذيب والتنكيل” لكي يعترفوا أو يتوبوا وينيبوا عن معتقداتهم” وكأننا عدنا إلي عصر يزيد والحسين. فيا للجاهلة” ويا للجاهلية!. وربما كان أحد أسباب الشك ثم العداء للشيعة في مصر هو نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية” بقيادة آية الله الخميني” والذي صرح هو وأنصاره منذ البداية بأنهم ينوون تصدير نفس الثورة الإسلامية إلي كل بلدان العالم الإسلامي. وزاد الطين بلة أن شاه إيران الذي اقتلعته الثورة الإيرانية لجأ إلي مصر ليعيش حتي نهاية حياته” في حماية الرئيس أنور السادات في تلك السنوات زادت العداوات وحملات الهجوم المتبادلة بين الحكومة المصرية ونظام الخميني. وبالطبع كان علي الأجهزة الأمنية المصرية أن تفترض أسوأ الاحتمالات” وهي لجوء أنصار الخميني إلي تجنيد الشيعة المصريين لكي يقوموا بالدور الثوري الانقلابي المتوقع. ومع حرب العراق 2003 وصعود قوة الشيعة في العراق والبحرين” لابد أن الأجهزة الأمنية زادت شكوكها في احتمالات تسرب الأفكار وتجنيد العملاء في مصر المحروسة. ولكن لماذا تضاعفت هذه القضايا في عهد حسني مبارك- والإجابة تكمن في طبيعة الحكم العسكري الذي ورثه مبارك” وتحول معه بعد اغتيال الرئيس السادات إلي حكم بوليسي. فبدلاً عن دولة المخابرات العسكرية التي سيطرت علي مقاليد الأمور وحدها في الحقبة الناصرية” أبدعت الحقبة المباركية بإضافة شريك جديد وهو جهاز مباحث أمن الدولة”. وفي الحقبة الناصرية كثرت وتعددت قضايا التخابر والتجسس” كإحدي آليات تبرير بقاء دولة المخابرات في السيطرة والهيمنة والإيحاء للحاكم بأنه لولاها لسقط نظام الحكم. وهذا هو ما يحدث مع الدولة البوليسية المباحثية. فلا بد لها أن تجد مؤامرة أو تنظيماً يهدد وحدة المجتمع ويدنس معتقداته ويشق صفوفه” كل عدة شهور” حتي لو ثبت بعد ذلك أن لا صحة ولا أساس لكل هذه المؤامرات والتنظيمات. فمثل الدولة المخابراتية” لا بد للدولة البوليسية من تبرير وجودها واستمرار هيمنتها علي العباد والبلاد. وكما لم تمنع دولة المخابرات وقوع الهزيمة عام 1967” لم تستطع الدولة البوليسية” لا منع مذبحة الأقصر (1997) ولا طابا (2004)” ولا شرم الشيخ (2005). إذاً كيف لها أن تمنع ذلك وهي مشغولة بمطاردة الشواذ جنسياً” وعباد الشيطان” وأنصار الشيخة منال” ومدعي النبوة” ومحاصرة واعتقال آل البيت والشيعة-. فيا سادة يا كرام في لاظوغلي ومدينة نصر والقصر الرئاسي: كفوا عن ملاحقة البشر بسبب المشاعر والمعتقدات. فهذه أمور ضميرية وجدانية” حسابها عند الله وحده” جل علاه. الرأي العام الكويتية