شَاركْت بمكتبة الإسكندرية فى مؤتمر مُثمِر امتد لثلاثة أيام حول مُقاربات جيل الوسط ورؤيته لكيفية إيجاد أرضية مُشتركة لجميع التيارات السياسية بمصر إسلاميين وغير إسلاميين.. والانطباع الأول الذى خرَجتُ به من هذه المشاركة الثرية التى اقتربتُ خلالها من عُقول وأفكار كثير من الرموز الثقافية والفكرية فى مصر من مختلف التيارات، هو أننى قد زادتْ قناعتى بضرورة الحوار والمُصارحة؛ لأن خيار الانعزالية وأن يظل كل فريق بعيدًا عن الآخر، كل يعمل فى ميدانه دُون أى تواصل مع الآخر، مُحمَلاً بهواجسه نحوه، فلن نصل إلى نتيجة، وستظل آلة الإعلام المُناوئة للاستقرار تعمل على تعْميق هذه الفجْوة بيننا، وستظل القوى والتيارات والجهات المُسْتفيدة من هذا الوضع الانعزالى المُزرى مُصرة على بقائه كما هو، ليظل الوطن كمجموعة جُزر مُنعزلة، كل جزيرة يسيطر عليها فصيل تختلف أهدافه ومُنطلقاته عن الفصيل الآخر، ليظل الوطن خائرًا أمامَ التحديات، تشغل أبناءَه مشاريعُ الانقسام لا مشاريع الوحدة، وعوامل الانعزال لا عوامل التقارب. والوطن بتلك الصورة من السَهْل جدًا اخترَاقه بما يدمره ويدمر أجياله الصاعدة من أفكار وافدة شديدة الخبْث والضلال تسعى لخلخلة نسيج المجتمع والانقضاض على واقعه المُفتت؛ لأنه ليس هناك اجتماع وإجماع وجبهة دفاع مشترك – إن جاز التعبير – تضم كل أبناء الأمة لرد تلك الاعتداءات الفكرية الشرسَة.. ولأن الأجيال الشابة تنظر إلى التيارات السياسية المُتصارعة بعين الريبة والشك، وتتساءل فى ظل هذا الجو المشحون بفقدان الثقة، عن تقديم المصلحة الوطنية، وعن صوت العقل والحكمة الذى يُرشد من هذه التوترات ويقرب المسافات ويمد جسور التفاهم؟.. وتتساءل عن صوت التأمل والعمق الذى يَدُق جَرَس الأفاقة، بأن الحقيقة التائهة عن كثيرين، أن هناك بالفعل أرضية مشتركة يمكننا الاستقرار بها بعيدًا عن جُزرنا المنعزلة. وقد ذكرتُ فى تعقيبى على كلمة المستشار البشرى، أن الوطنية تجمَعُنا، وتجمعنا كلياتُ الدين وثوابته وأصُوله العامة وقيمُه، فلا أحدَ يختلف على حُب الوطن وهذا مشترك يجمعنا جميعًا – مسلمين ومسيحيين وليبراليين وإسلاميين-، ولا أحد يخالف على العدالة والحرية والشورى والمساواة والتكافل الاجتماعى ونبذ الغدر ونبذ العنف وآداب الحوار والتعايش.. وما المانع من غلق الدائرة على أهل الوسط الذين يقبلون الآخر ويحترمون الخلاف ولا يطعنون فى الثوابت ويبحثون عن المشتركات وينبذون الخلاف؟، بل إن من الليبراليين من يجعل من قيم الإسلام ومفاهيمه مرجعيته فى التنوع واحترام الآخر وتداول السلطة، فلماذا لا نغلق الدائرة على أهل الاعتدال والتوسط وطرد أصوات التطرف والتكفير من الطرفين ونبذهم ليخفُتَ صوتهم شيئًا فشيئًا حتى ينتهى تمامًا؟. ثم ما المَانع من أن نبرز فقط الذى يجمعنا ونتفق عليه؟؛ فعلى سبيل المثال فى حالة الرَمْز الروائى الكبير نجيب محفوظ؛ فلا نظل ندَندِن حَوْل رواية واحدة من رواياته، والتى ربما تبرأ منها، والتى نراها أضعف إنتاجه الفكرى والفلسفى والفنى.. فبالنظرة الشاملة المتعمقة سنجد أن الذى يجمعنا بنجيب محفوظ أكثر من الذى يعزلنا عنه، وهو الذى أعلى من قيم العدالة والحرية والمساواة خاصة فى ملحمته الرائعة "الحرافيش". نرفض ما يُسىء ولا نسلط الضوء عليه فيذوى ويذبل، ونردد وراء محمود درويش الماركسى شعره المُقاوم للاحتلال، ونعتبر أمل دنقل "القومى العُروبى" شاعرنا عندما غنى "لا تصَالحْ".