مهنة الطب مِن أشرف المهن وأنبلها, لأنها تتعلق بمداواة الإنسان الذى كرمه الله عز وجل, ويأتى علم الطب بعد علم الدين من حيث شرف التعلم, وممارسو المهنة لابد أن تتوفر لهم ملكات وصفات خاصة ومميزة من حيث العلم والكفاءة والأخلاق, حتى يستطيعوا تأدية دورهم فى الحفاظ على حياة الإنسان, والطبيب فى مصر أصابه ما أصاب الجميع من الظلم البين, خاصة أنه يتوجب عليه الظهور بمظهر ووضعية معينة تُطمئِن المريض, ولنبدأ القصة من أولها, طالب الطب فى مصر حاصل على أعلى مجموع.. فوق 95 %, يدخل الكلية فيُفاجأ بقلة الإمكانيات, وكثرة الأعداد, حتى إننا كنا فى المشرحة نقف على الكراسى لمشاهدة عملية التشريح التى تتطلب دقة الملاحظة, وذلك لكثرة الأعداد, لفساد سياسة القبول التى تقوم على العشوائية وليس الاحتياجات الحقيقية للمجتمع, حتى إن أعضاء المجالس المحلية فى بعض المحافظات للتفاخر بأنهم أنشأوا كلية طب فى بلدهم يستصدرون قرارات بتحويل المستشفى العام إلى مستشفى جامعى لتكون نواة لكلية الطب, الفاقدة لأبسط أساسيات التجهيز أو الكوادر, فيتخرج الطبيب دون إعداد أو تعليم أو تدريب, فيسىء لنفسه ويضر غيره, فى المقابل شاهدت فى النمسا البروفيسور( رئيس القسم) يقوم بالشرح والتعليم لطالبين فقط! المهم يتخرج الطبيب وهو لا يعلم كيف يعطى حقنة فيتعلمها من الممرضة! ثم يتقاضى راتبًا, تتقاضى الخادمة فى المنزل أضعافه,لا يكفى لشراء حذاء, ولا أنسى مقولة الدكتور حمدى السيد، نقيب الأطباء الأسبق، الذى قال إن كثيرًا من شباب الأطباء لا يملكون ثمن حذاء جديد!, وكان قد قال فى مؤتمر بكلية طب الإسكندرية عام77 (أنه لو استمرت سياسة الدولة فى أعداد المقبولين بكليات الطب فسوف نجمع الأطباء من على المقاهي.. بمعنى سيعانون البطالة.. وقد كان!) وبما أن الراتب لا يكفى فيضطر الطبيب للتزويغ من العمل, والجرى إلى العمل الخاص إن وجد, أو الاهتمام بعيادته على حساب عمله الأصلى الذى قد يكون وسيلة لتشغيل العيادة, ويتحمل المرضى عبء هروب الأطباء ويتهمونهم بالجشع واللا إنسانية ناظرين إلى مجموعة من الأطباء قد يغالون أو يستغلون المرضى ولا يعلمون حال الكثرة الغالبة منهم, والذين يعملون أيضًا فى ظروف سيئة مرتبطة بحالة التدهور فى الخدمات الأساسية للبلاد, مما يترتب عليها سوء الأداء, وأذكر وأنا فى مرحلة الامتياز, وهى المرحلة الأولى للتعليم بعد التخرج وكنت أقضيها فى مستشفى مركزى بإحدى المحافظات, وكانت المياه دائمة الانقطاع بهذه المدينة, فكانت العاملة (اسمها أم سمسم) تملأ لنا "طشت" بالماء أمام غرفة العمليات, فإذا أردنا التعقيم صبت علينا الماء بكوز بلاستيك أحمر قديم يحمل من الجراثيم ما ينوء به جسد المريض! وتصور معى كيف تكون هذه ممارسة للطب, لكنه واقع يحدد النظرة والإمكانيات المتاحة للممارسة, وعندما كنا نشتكى لمدير الصحة يرد علينا بأسلوب التنظيم الطليعى (البلد فقيرة, وصحيح أن مرتباتكم قليلة.. لكن الأسعار منخفضة.. شوفوا الرغيف بكام..وهكذا!)..لذا عندما تدعو جموع الأطباء للإضراب باستثناء حالات الطوارئ, فهو أمر مشروع ومطلوب ويعيد الأمور إلى نصابها ووضعها الطبيعى والعادل بعد أن فاض الكيل وطفح, حتى صار الطبيب المصرى أضحوكة ومجالاً للاستهزاء والسخرية, ولا أنسى مقولة الدكتور غازى القصيبى وزير الصحة السعودى عندما سمع عن تذمر الأطباء المصريين من قلة رواتبهم بالمقارنة بزملائهم الغربيين (أنا أعلم رواتب الأطباء المصريين فإن أرادوا العودة لبلادهم فلا مانع!) وكان الراتب يعادل 50 دولاراً, ومن المضحك أن الأطباء الأجانب كانوا يتعجبون من قلة هذا الراتب اليومي!, وكنا نخجل أن نخبرهم أنه شهري (يعنى كنا بنعديها)! وقد قرأت اليوم أن راتب عامل القمامة (وهى بلاشك مهنة شريفة ومحترمة ومهمة) قد وصل إلى 1400جنيه، وراتب الطبيب حديث التخرج لا يتجاوز ال500جنيه؟! فى النهاية أقول إن أطباء مصر ثروة قومية, وعامل جذب, ومهارات متميزة, إذا توفرت لهم الظروف المناسبة, وأمِنوا مستقبلهم, وعاشوا كراماً لا يتكففون الناس, فإصلاح أحوالهم وظروفهم واجب شرعي (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (اعدلوا هو أقرب للتقوى), وواجب أخلاقي, وضرورة قومية, لأن الإنسان المشتت الذهن باللهث وراء لقمة العيش لا يستطيع التركيز والمعالجة لغيره, والبدائل والأموال موجودة فمصادرة ممتلكات واحد من الفاسدين كفيل بإصلاح ميزانية الصحة, أو التصالح على أرض مدينتي (والصحيح أنها مدينتهم), أو أرض العياط, أو..أو.. أما لو أهملنا هذا الأمر ودفنا رأسنا فى الرمال..... فهنيئاً لنا بكوز أم سمسم! دكتور جمال المنشاوي الزمالة النمساوية فى طب الأطفال