تشكو كثير من المستشفيات الحكومية ، العامة والمركزية، من تخمة فى الأطباء ، وهاهى نقابة الأطباء تحارب منذ سنوات طويلة لتقليل أعداد المقبولين فى كليات الطب بلا جدوى ، أعرف مستشفيات بها أكثر من أربعين طبيبا فى تخصص واحد ، كالنسا والتوليد ، الذى اتخذت وزارة الصحة قرارا حكيما ألغى بعد الثورة بوقف النيابات به ، ومع ذلك كثيرا ما تذهب مريضة فى حالة طارئة لمثل ذلك المستشفى ، فلا تجد الأخصائى الذى يتعامل مع الحالة وفق القواعد الطبية ، لأن سيادته مشغول مع حالة أخرى بعيادته الخاصة فى الوقت ذاته، ويقوم بإعطاء التعليمات للنائب عن طريق التليفون، وإذا حضر فلدقائق قليلة يسرع بعدها إلى عيادته تاركا النائب لاستكمال العمل! مالسبب ؟ هل هو انعدام روح الواجب لدى الطبيب الذى يتلقى فى سنوات الدراسة العلوم الطبية؛ فيدرس علوم التشريح و وظائف الأعضاء والأمراض وعلم الأدوية ، ويذاكر خطوات إجراء العمليات الجراحية، لكنه لايتعلم كيفية التعامل مع المريض كإنسان؟ ولا يعرف حقيقة دوره فى المجتمع ؟ لايدرك أنه يحمل رسالة يخفف بها آلام الناس، وفى نفس الوقت ينعم الله عليه بالرزق، ليس مجرد صاحب حرفة همّه جمع المال؟ هل هى سياسة التجويع التى طبقها نظام مبارك الذى استعبد الطبيب وسائر المواطنين ولم يعامله حتى كما كان السيد يعامل العبد فى أيام الجاهلية؟ فيطعمه ويكسوه ويزوّجه؟ فيضطر هذا إلى مخالفة ضميره و واجبات مهنته كى يدبّر عيشه، كأن النظام الفاسد كان يفرض على الجميع أن يَفسَدوا ويتلوثوا رغما عنهم؟ عندما دخلنا كلية الطب فى أوائل السبعينيات كان يخامرنا حلم ( خمسة عين ) : عيادة وعربة وعمارة وعروسة وعزبة.. ثم عشنا الواقع المرّ الذى لا يكفى فيه الراتب إيجار الشقة!.. ذات مرة كنت أركب الميكروباس للذهاب إلى عملى فى الوحدة الصحية فى قرية نائية على شاطىء بحيرة المنزلة رحمها الله البحيرة وليست القرية وعندما عرف الفلاح الذى بجوارى أننى طبيب صاح متعجبا: هل هناك طبيب بدون سيارة؟.. قلت له : بل هناك طبيب يعيش على الكفاف! وإذا كان لابد من شكر أصحاب الفضل ، فإننى أذكر بالخير الدكتور إسماعيل سلاّم الذى كان أول وزير صحة يعمل على رفع دخول الأطباء ، ففى عهده تقرر لأول مرة بدل النوبتجيات للطبيب، بعد أن كنا نعمل ليل نهار ، حتى فى أيام الجمع والأعياد، ونحصل فقط على الراتب الضئيل الذى لايسمن من جوع. لكن هذا البدل الآن لايساوى ما ينفقه الطبيب على عشائه فى ليلة النوبيتجية! ويتساءل المجتمع: لماذا يضطر الطبيب إلى مخالفة أصول مهنته الإنسانية ويلجأ إلى الإضراب للمطالبة بحقوقه الأساسية ؟ تلك التى يجب على الدولة توفيرها له حتى لو كان عاطلا وليس طبيبا قضى عشرات السنوات فى طلب العلم؟ هل السبب كما قال أحد الزملاء: إن قطاع الصحة قطاع خدمات مستهلك، وليس قطاعا يدرّ دخلا كما فى البنوك وشركات الكهرباء؟ بئست النظرة القاصرة ، فالتعليم والصحة هما عنوان التقدم فى أى مجتمع، وماينفق عليهما هو استثمار للبشر لا للحجر. لماذا كثرت شكاوى المواطنين من تقصير الأطباء فى أداء عملهم وانصرافهم إلى عياداتهم الخاصة؟ قبل الإجابة لابد أن نعرف أن الخدمة الصحية ليست طبيبا فقط، فهناك المنشآت والأجهزة و الأدوية والمستلزمات ، وهناك الطاقم البشرى بداية من العاملة التى تمسح البلاط، و العامل الذى ينظم الزيارة، وفنى المعمل والأشعة، والموظف الإدارى، والممرضة التى تنفذ خطة العلاج.. هؤلاء جميعا مظلومون. وإصلاح المهنة يجب أن يشملهم بالتدريب والتوعية، وأيضا العائد المادى الذى يحفزهم على أداء الخدمة بنفس راضية. أما بالنسبة للطبيب، فمطلوب منه أن يتعلم باستمرار ويحصل على الشهادات ويحضر المؤتمرات ويواكب الجديد فى مجاله، كل هذا على نفقته الخاصة، الواجب أن يكون كل ذلك على حساب جهة العمل ، لأنه يعود عليها بالفائدة. وليس كل الأطباء من فئة الباشوات الذين ننتقدهم نحن الأطباء، ونعيب عليهم تقصيرهم، وقد ذكرتهم فى مقالى هذا باستفاضة، وهؤلاء لايعنيهم حال عشرات الآلاف من الأطباء ( المعذبون فى الأرض) الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . ثم إن الأطباء هم من أكثر الفئات تعرضا للعدوى والإصابة بالأمراض الخطيرة، وليس فى مصر كلها مستشفى للأطباء، كأن باب النجار مخلّع. حتى عندما تكرمت نقابة الأطباء فى العهد البائد فى بالتفكير فى علاجهم اخترعت نظاما للعلاج بأجر، بدلا من أن تضغط على الدولة لوضع آلية لحصولهم على العلاج الذى يصفونه للناس بطريقة تحفظ كرامتهم وآدميتهم. هل عرفتم أيها المواطنون جانبا من معاناة الأطباء؟ الحل الوحيد لمشكلات الأطباء ، والذى لايعترف به أحد هو كالتالى: لا توجد دولة واحدة على كوكب الأرض يكون فيها الطبيب موظفا وفى نفس الوقت يمارس العمل فى عيادته فى العمارة المجاورة للمستشفى الحكومى. ولاتوجد دولة واحدة يلتزم فيها أطباء المستشفى جميعا بالتوقيع فى دفتر الحضور صباحا إذا لم يقم موظف الدفتر بذلك نيابة عنهم نظير إكرامية وينصرف الذى وقّع إما مباشرة أوبعد الظهر، كأنهم موظفون فى أى إدارة حكومية روتينية ، ولايتواجد حتى الصباح التالى سوى النواب وصغار الأطباء. ولايستثنى مِن التوقيع مَن أنفق الليل بطوله فى عمل متواصل! كما لا توجد دولة واحدة يضطر الطبيب فيها للجرى بين العيادات والمستوصفات أربعا وعشرين ساعة فى أكثر من مكان لكسب عبيشه وإعالة أسرته واستكمال دراسته، بل إن هناك أطباء يعملون فى مهن أخرى ، لأن ليس كل طبيب بقادر على فتح عيادة خاصة ، وليس كل من فتح عيادة خاصة يستطيع جلب الزبائن ، فهذا عالم ملىء بالأسرار والتربيطات . ومن خلال عملى لثلاثين عاما أقرر أن غالبية قدامى الأطباء يهتمون بعياداتهم الخاصة على حساب تقديم الخدمة الصحية السليمة، أو القيام بتدريب الأطباء الجدد، ونقطة التدريب هذه فى غاية الأهمية، فإن تخرج الطبيب فى الكلية لا يعنى أنه صار قادرا على ممارسة المهنة، إنها (صنعة) لابد أن يشربها الصبى على يد الأسطى ، لكن الأسطوات مشغولون بعياداتهم الخاصة ، أو قل إنهم لا يريدون نقل خبراتهم للصغار الذين سوف ينافسوهم فى السوق بعد شهور أو سنوات . ومن يتخطى الخامسة والأربعين يعتبرنفسه استشاريا كبيرا، ومن العيب فى حقه أن يجلس فى العيادة الخارجية أو الاستقبال للكشف على مريض، بالرغم من أنه يسعد باستقبال نفس المريض فى عيادته الخاصة ويستقبله بالترحيب والقبلات.. وغاية مايفعله الباشا فى المستشفى، إن ذهب إليها، أن يهزّر مع المدير والزملاء ويحتسى الشاى والقهوة ويناقش أحوال البلد ، ولامانع من أن يتهم الشعب بالبلادة وانعدام الضمير، ثم يمضى إلى حال سبيله. يوما ما عاتب مدير المتشفى طبيبا فى الثامنة الخمسين على عدم حضوره إلى المستشفى ، فاعتذر بأن السن له أحكامه والعضمة كبرت فكيف يحضر فى الصباح بعد ما سهر مع حالة فى عيادته منذ الثانية صباحا حتى السابعة؟.. و يجب أن ينام بعض الوقت !!.. سيادته وجد الصحة لقضاء الليل مع حالة فى عيادته الخاصة ، لكنه لايستطيع الحضور للمستشفى ساعة أو ساعتين!! إن كثيرين من الأطباء لا يربطهم بالوظيفة سوى جملة: طبيب كذا فى مستشفى كذا، فى بطاقتهم الشخصية، تماما مثل أولئك الذين لا يربطهم بالإسلام سوى كلمة مسلم فى البطاقة الشخصية أيضا، وإذا ذهب لأداء واجب العزاء انتظر خارج المسجد حتى تنقضى صلاة العصر وصلاة الجنازة ، ثم يسير بجوار أهل المتوفى يذكرّهم بالله وبأن الموت علينا حق! وفى نفس الوقت نجد تخصصات مظلومة كالتخدير، إذ فى غالبية الفروع يوجد فى النوبيتجية أكثر من ثلاثة أو خمسة أخصائيين ، غير النواب، يتقاسمون معا العمل ، كل واحد يكون مسئولا عن المستشفى ساعات محدودة.. بينما يوجد طبيب تخدير واحد فى مقابل عشرين جراحا أو أكثر، فلا يكاد يهدأ من العمل مع أخصائى النسا حتى يستدعيه أخصائى الجراجة أو العظام ، وفى آخر الشهر يحصل الجميع على نفس المقابل النقدى!! بل إن القرار الوزارى قد قصر الحد الأقصى لصرف بدل السهر على ثمان ليال شهريا للأخصائى.. وفى كثير من المستشفيات يوجد فقط أخصائى تخدير أو اثنان يتبادلان العمل يوميا، أى أن كلا منهما يسهر نصف الشهر ، ولايتقاضى بدلا سوى عن ثمان ليال!! وأكثر من ذلك ؛ إذا مرّ على المستشفى تفتيش من المديرية أو الوزارة أو حتى من مكتب المحافظ، وكان طبيب التخدير ، الذى يعمل مجانا، غير متواجد لسبب ما ، فإنه يحوّل إلى الشئون القانونية ويرزعه المحقق جزاءا محترما يسوّد ملفه ويحرمه من الترقية أو العلاوة التشجيعية!!.. وقد حدث هذا معى شخصيا أكثر من مرة.. ومن يطالع ملفّى يجزم بأن هذا موظف سىء يستحق تطبيق قانون الطوارىء عليه ! بدلا من دفن الرؤوس فى الرمال تعالوا نضع الحل الصحيح : ألا يحظر قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 على العامل أن يمارس عملا يتعارض مع عمله الوظيفى؟ هل يجوز للعامل أن يمارس عملا خاصا فيه شبهة تربّح من عمله ؟ جميعنا نعرف أن مرضى كثيرين يتم تسريبهم من المستشفى الحكومى للعيادات الخاصة ، ونعرف أن مرضى كثيرين يدفعون للطبيب أتعابا فى مقابل أن تجرى لهم عمليات فى القسم المجانى. بل إن أطباءاً من معدومى الضمير يتعمدون الإساءة إلى صورة العمل بالمستشفيات الحكومية حتى ينصرف المرضى عنها ويتوجهوا لعياداتهم. ولما كان بعض الأطباء يتقاضون فى العملية الواحدة أجرا قد يساوى راتبهم عن عملهم الحكومى لعام كامل، لذلك لايردعهم عقاب أو جزاء بخصم يوم أو أيام من راتبهم. ولما كان الطبيب يهرع إلى عيادته عندما تستدعيه التومرجية ويترك المستشفى الحكومى ، إن كان ذهب إليه أساسا،ولما كان هناك كثير من الأطباء الذين يراعون الله فيلتزمون بالحضور يوميا ويعملون بإخلاص ، لذلك لايحصلون على دخل مناسب من العمل الخاص لأنهم غير متفرغين له فضلا عن أن يكافأوا من إدارة المستشفى على التزامهم،فلماذا الأطباء وحدهم على رأسهم ريشة ؟ لماذا يسمح لهم بممارسة العمل الخاص بجوار عملهم الحكومى؟ ثم نشكو من تقاعسهم وعدم التزامهم! ألا يعتبر إعطاء المعلم دروسا خصوصية مجرّما قانونا لأنه يمارس مهام وظيفته الحكومية وبالتالى قد يقصر فى أداء عمله الوظيفى مع شبهة تربحه من وراء ذلك؟ كذلك قيام الطبيب بافتتاح عيادة خاصة يمارس فيها نفس عمله الوظيفى : الكشف ، العمليات الجراحية ، الأشعة، التحاليل ... أى نفس مهام وظيفته. لذلك يجب تطبيق القانون الذى يجرّم قيام العامل بعمل خاص يؤثر على أدائه لوظيفته أو يحمل شبهة تربّح من ورائه. يجب ، إذا كنا ننشد إصلاح مهنة الطب ، أن يُمنع بتاتا الجمع بين عمل الطبيب الحكومى والعمل الخاص. من يريد العمل الخاص يستقيل. ومن يستمر فى العمل الحكومى يتقاضى راتبا يليق بآدميته . ويتم تقسيم الأطباء على ورديات طوال 24 ساعة، بحيث ينتظر الطبيبُ المريضَ، وليس العكس. وسوف تكفى ميزانية وزارة الصحة لدفع رواتب حقيقية وليس تمثيلا كما يحدث حاليا. هل أجد محاميا يساعدنى فى رفع دعوى أمام الجهات المسئولة؟