اقتنعت أخيرا بأن تلاميذ مدرسة المشاغبين في المسرحية المصرية الشهيرة، كانوا علي درجة معتبرة من البراءة والاحتشام، وأن ماشاهدناه في تلك المسرحية قبل أكثر من ثلاثة عقود كان يعبر عن طور في تاريخ التعليم والمجتمع، يجب أن نتعامل معه بتعاطف وتقدير، علي الأقل، لأن الجنوح الذي قدمته وقتذاك كان مقصورا علي التلاميذ دون الأساتذة، وهو وضع أفضل بمراحل من الذي نشهده الآن، حيث انقلبت الآية، حتي صرنا بصدد نموذج يرشح بامتياز ليصبح ضمن علامات الساعة الصغري. [1] أذهلني ماسمعته ذات يوم من صديق عن أحوال التعليم الاساسي في مصر، ورفضت تصديق الوقائع التي ذكرها إلا إذا حصلتها من مصادرها الأصلية، وكان أن رتب لي في الاسبوع الماضي لقاء مع نفر من الموجهين والاساتذة الذين لم يجرفهم الطوفان، وعلي مدي أربع ساعات ظلوا يتناوبون الحديث عما يرونه بأعينهم كل يوم، وأنا أسجل مندهشا، وغير قادر علي تخيل أن ذلك يحدث في القرن الحادي والعشرين، وفي أم الدنيا وأين؟ في قلب عاصمة المحروسة إليك بعض ماقالوه: صباح ذات يوم كانت الموجهة في طريقها إلي إحدي المدارس، وهي تدلف الباب متجهة إلي حجرة المدير، صادفتها في فناء المدرسة سيدة تحمل فوق رأسها إناء كبيرا مغطي بقطعة من القماش، استوقفتها السيدة وقالت لها: بقي معي كيلو ممبار( الأمعاء المحشوة بالأرز أو اللحم المفروم، وهو أقرب إلي المقانق في الشام، ويسمونها في الفصحي الوشيق، وهو نوع سيعجبك هل تشتريه؟ سألتها الموجهة عما إذا كانت قد صرفت بضاعتها داخل المدرسة، فردت البائعة بالإيجاب قائلة إن زبائنها كثيرون، من المدير إلي المدرسين والمدرسات. قال موجه آخر، دخول بعض الباعة الجائلين إلي المدارس ليس المشكلة الوحيدة لأن هناك مدرسين ومدرسات يجلبون معهم بضائع من الخارج ويلزمون الطلاب بشرائها، وقد اشتكي بعض أولياء الأمور من أنهم لم يعودوا يحتملون الضغوط التي يمارسها المدرسون والمدرسات في هذا الصدد، إذ لم يعد التلميذ مجبرا علي أن يأخذ درسا خصوصيا مع مدرس الفصل فقط، وانما تعين عليه ايضا أن يشتري منه مايعرضه للبيع. أضاف ثالث: ما رأيكم في المدرسات اللاتي يأتين بالخضر معهن إلي المدرسة، ويطالبن التلميذات بالاشتراك في تجهيزها للطبخ، عن طريق قطف الملوخية، وتقميع البامية وتقشير الباذنجان وفرط البازلاء؟ [2] أهم مايشغل المدرس منذ اليوم الأول للعام الدراسي هو كيف يمكن أن يستحوذ علي أكبر عدد ممكن من التلاميذ في المجموعات الدراسية، وفكرة المجموعات هذه تبنتها الوزارة وقننتها لمكافحة انتشار الدروس الخصوصية، في اعتراف ضمني مثير بضعف التحصيل خلال صفوف الدراسة العادية، وهذه المجموعات يسمونها المجاميع تخص سنوات النقل بالدرجة الأولي، في حين أن صفوف الشهادات( الابتدائية والاعدادية) يتقوي التلاميذ فيها من خلال الدروس الخصوصية. في المصطلحات المتداولة بين المدرسين فإن إغراء التلاميذ بالانضمام إلي المجموعات يوصف بانه اصطياد الحمام، أما تسجيل أسمائهم بالفعل فهو يطلق عليه دخول العش، ولأن عملية التسجيل لاتخضع للرقابة، فيحدث أحيانا أن يكون في المجموعة40 تلميذا، لكن مدير المدرسة يسجل20 منهم فقط، ويضع الرسوم التي يدفعها الاخرون في جيبه، وفي أحيان أخري يتعين علي كل مدرس أو مدرسة أن يدفع50 جنيها لمدير المدرسة، لانه لايقوم بالتدريس، وينبغي أن يكون له في الكعكة نصيب، ويحدث أحيانا أن تقتضي الظروف احدي المدرسات المتزوجات- مثلا أن تعتذر عن عدم التدريس في المجموعات، وفي هذه الحالة فإنها تبيع الفصل لمدرس آخر مقابل أجر شهري يدفعه لها. ولأن هناك مدرسين لاتتيح لهم تخصصاتهم إعطاء دروس خصوصية، مثل مدرسي التربية الفنية والموسيقي وأمناء المكتبات ومدرسي الوسائط المتعددة( يسمونها الأوساط وهم الذين يقومون علي الكمبيوتر)، هؤلاء يطرقون أبوابا عدة لزيادة مواردهم، بعض مدرسي الموسيقي يعملون طوال الليل في كباريهات شارع الهرم، وحدثوني عن مدرس يشتغل عاملا في محطة بنزين، وآخر يعمل مقرئا في المقابر، وثالث احترف مهنة السباكة ورابع وجد وظيفة حارس أمن في بناية، أمام طاولة للحلوي نصبها علي احدي النواصي وهكذا. في أكثر من حالة لجأ بعض أساتذة التربية الفنية إلي تربية الدجاج والبط في داخل المدرسة وبيعها في الخارج، إما ان تترك الطيور حرة مع التلاميذ في فناء المدرسة، أو تترك في الشارع أثناء اليوم الدراسي، ثم في نهاية النهار تودع حجرة التربية الفنية لتبيت فيها. في احدي المدارس كان مديرها هو صاحب الكشك الذي يبيع الحلوي والمأكولات الخفيفة للتلاميذ، وعندما لاحظ المدير أن بين أيدي البعض أصنافا للحلوي لايتعامل معها، فانه ظل يتقصي الأمر حتي اكتشف أن أمين المكتبة ينافسه ببضاعة موازية وضعها تحت احدي الطاولات، وفي مدرسة أخري لاحظ أحد الموجهين أن أمينة المكتبة تبيع الفطائر للتلاميذ، وتبين أن ذلك سبب اشكالا بينها وبين المديرة، لأن الأولي رفضت أن تحصل منها علي حصة من أرباحها مقابل غض الطرف عنها. [3] وقفت المدرسة أمام التلاميذ تشرح لهم الفرق بين المهاجرين والأنصار، فقالت إن المهاجرين هم الذين هاجروا من مكة إلي المدينة مع النبي صلي الله عليه وسلم أما الأنصار فهم النصاري الذين دخلوا في الاسلام في تلك المرحلة. مدرسة أخري وقفت تقرأ علي التلاميذ بصوت عال سورة الكافرون، لكنها توقفت فجأة وقالت إن هناك خطأ مطبعيا أدي إلي تكرار إحدي الآيات مرتين، وهي التي تقول ولا أنتم عابدون ما أعبد وطلبت من التلاميذ شطب الآية الثانية، التي تقع قبل نهاية السورة، غير مدركة أن التكرار حاصل في أصل السورة. لمواجهة العجز في أعداد المدرسين تفتق ذهن أحد العباقرة في الوزارة عن مخرج للازمة تمثل في تكليف يري المدارس ووكلائها بالعودة إلي التدريس إلي جانب ممارستهم لوظائفهم، وهم الذين انفصلوا عن التدريس منذ سنوات حتي نسوه وانمحت دروسه من ذاكرتهم، ولمواجهة العجز في الموارد المالية تبني العباقرة أنفسهم فكرتين كل منهما أغرب من الأخري، الاولي تقضي بإشراك رجال الاعمال في منطقة المدرسة في مجلس الآباء، لتساهم تبرعاتهم التي تعفي من الضرائب في سد بعض احتياجات المدرسة، ومن خلال هذه المشاركة أصبح لرجال الاعمال كلمة فيما يجري بداخلها، خصوصا أن لكل واحد منهم مصالحه وزبائنه، أما الفكرة الثانية فقد دعت إلي تحويل المدرسة إلي وحدة منتجة عن طريق قيامها بالاتجار في المخللات واللحم المستورد والشاي والسكر، الأمر الذي أدي إلي إشغال المديرين بالتجارة والتكسب وصرفهم عمليا عن كل مايتعلق بالعملية التعليمية. إذا سألتني عن وجه الغرابة في الفكرتين، فردي أن ذلك لايتمثل فقط في هدم منظومة المدرسة، وانما ايضا لانهما تعنيان أن الوزارة المختصة بصدد رفع يدها عن العملية التعليمية، وأنها تتجه عمليا إلي خصخصة التعليم، حتي وأن لم نقصد ذلك. [4] بسبب الدروس الخصوصية أصبح التلميذ في موقف أقوي من المدرس، ولذلك اختفي المدرس الذي يؤدب التلميذ، وانما انقلبت الآية، بحيث تعددت الحالات التي أصبح التلاميذ فيها يعتدون بالضرب علي المدرسين، وبداهة فإنه لم يعد بمقدور المدرسين منع الطلاب من الغش في الامتحانات. إحدي الموجهات روت القصة التالية، مع قدوم موعد الامتحانات كلفت مع آخرين بالاشراف علي إحدي اللجان في إحدي قري محافظة المنوفية، قبل بدء الامتحانات بيوم ذهبت المجموعة إلي القرية لمعاينة الموقف، استقبلتهم سيارة عند محطة السكة لحديد، ونقلتهم إلي مدرسة القرية، وبعد الانتهاء من مهمتهم رغبوا في العودة للقاهرة، لكن العمدة وشيخ البلد وآخرين من أهل القرية أصروا بشدة علي استبقائهم علي الغداء، بعد أن صرفوا السيارة التي يفترض أن تعيدهم إلي المحطة، علي الغداء وجدوا مائدة عامرة بكل مالذ وطاب من بط وفراخ وأرانب وفطير وقشدة وعسل وفاكهة، وهم خارجون من الدار بعد ذلك فوجئوا بتجمع أهل القرية حولهم، وتسابقهم علي إعطاء أرقام جلوس الطلاب، ولم يفهموا مايجري إلا حين قيل لهم إن أموالا جمعت من السكان بمعدل يتراوح بين5 و10 جنيهات للأسرة، لكي تقام لهم مأدبة الغداء، وأن المطلوب منهم بعدما أكلوا وشبعوا أن يأخذوا بالهم من التلاميذ في أيام الامتحانات. في صباح اليوم الأول للامتحانات، فوجئت الموجهة بأحد المدرسين وقد دخل إلي القاعة ممسكا معه كتاب سلاح التلاميذ وراح يملي علي التلاميذ إجابة الاسئلة، أذهلها المشهد فقالت لزميل لها من أعضاء اللجنة القادمة من القاهرة، ألا ينبغي أن نوقف المهزلة ونطرده من القاعة، فهمس صاحبها في أذنها قائلا، لا ترفعي صوتك وإلا افترسنا الناس والقوا بنا في الترعة ولن يسمع بنا أحد أو يحمينا، فعادت إلي مقعدها والتزمت الصمت! [5] حصيلة الساعات الأربع أضعاف هذا الذي ذكرت، ولك أن تعتبر الذي مررت به مجرد عينة أو نموذج مصغر لما يجري في المدارس الحكومية الابتدائية والاعدادية، التي تضم أكثر من11 مليون تلميذ وتلميذة، وقبل أن أسجل ملاحظاتي علي هذه الصورة فانني لا أخفي تعاطفا مع المدرسين الذين يلجأون إلي مختلف الحيل والاساليب المهينة أحيانا لكي يواجهوا أعباء الحياة، لانك اذا علمت أن الواحد منهم يتقاضي في الشهر ما بين200 و300 جنيه( من35 إلي50 دولارا)، فلابد أن تلتمس له العذر، وان تحول النقمة والسخط صوب الذين وضعوه في هذا الموقف. أنني إذ أذكر بأن هذه كلها مشاهدات مسرحها القاهرة الكبري، فلابد أن يطرح ذلك علينا العديد من الاسئلة حول مايحدث في أقاصي الصعيد وأعماق الدلتا، ولابد أن يفزعنا ليس فقط مايحدث ذلك كله في المدارس، ولكن ايضا ان تستمر الأوضاع علي ذلك النحو لعدة سنوات، ولايسمع بها أحد، ولايصل منها شيء إلي وسائل الاعلام، وهو مايعد شاهدا علي اتساع الهوة إلي حد الفصام والانقطاع بين الأعماق والسطح، بين مصر الاولي التي تسمع ضجيجها وتراها في الصور، ومصر الاخري التي لاصوت لها ولاتكاد تري لها صورا. ولابد أن يتضاعف فزعنا حين نتصور أن ذلك التدهور ليس مقصورا علي مجال التعليم فقط، حيث ليس هناك مايبرر انفراده بها، وانما قد يكون حاصلا ايضا في مجالات الخدمات الاخري. بين يدي تقرير بائس عن حالة التعليم في مصر خلال عامي95 و96 أعده المركز القومي للامتحانات والتقويم التربوي، ولكنه حجب عن الجميع وعوقب الذين أعدوه، وعلي رأسهم مدير المركز الدكتور فؤاد أبو حطب الذي مات مقهورا، كما عوقب معاونوه الأربعة وهم من أساتذة التربية وخبراء التقويم، وما أورده التقرير عن التعليم الاساسي يمثل عشر معشار ما آلت إليه أحوال المدارس في سنة2005. بقي أن تعرف أن محمد علي باشا أنشأ في عام1836 مجلس شوري المدارس الذي أصبح يسمي ديوان المدارس فيما بعد، وقد كان يوفد لجنة للتفتيش الدوري علي المدارس كل ثلاثة شهور، كما أن النظار كانوا يرسلون إلي الديوان كل ثلاثة أشهر تقارير عن أحوال مدارسهم، وكانت تعرض علي الباشا بين الحين والآخر خلاصة تلك التقارير. أهلا بكم في مصر الأخري! --------------------------------------------------------- صحيفة الاهرام