من الانحيازات الشائعة و المغلوطة ، اعتبار التطرف ظاهرة دينية فقط ، وقد يبالغ البعض فيعتبر التطرف ظاهرة أفرزها الفكر الإسلامي ، وهذا في ذاته يعد نوعا من التطرف و البعد عن الموضوعية ، فالتطرف بشكل عام حالة إنسانية ونفسية تتستر بمبرر و تكييف ديني أو ثقافي أو فكري ، ولذلك فهو ظاهرة إنسانية لا دينية . وعند قراءة تاريخ الإنسان عموما نستطيع أن نجد نماذج بشرية واضحة في كل الأديان و الأيدلوجيات على المستويين الفردي و الجمعي . وقد أشرنا من قبل إلى نموذج سافونا رولا الراهب المسيحي الإيطالي . وعندما جاء المسيح عليه السلام كان هناك نوع من النماذج المتطرفة يُطلَقُ عليهم الكتبة والفريسون ، كانوا يتعاملون بشكل حرفي يتسم بالجمود مع النصوص الدينية ، وقد هاجمهم المسيح عليه السلام بسبب هذا التعنت و التحجر في فهم النصوص . لكن هناك نوع آخر من التطرف تم تجاهله وغض الطرف عنه بشكل متعمد على الرغم من أنه أكثر خطورة من التطرف الديني ، وهو التطرف الثقافي أو الفكري الذي يتستر بشعارات تنويرية ، ويستدل بعبارات أكاديمية متعالية ، و ربما بسيجار (يشبه سيجار برتراند راسل) . وهذا النوع من التطرف الذي يدعو إلى استنساخ الثقافة الغربية ، ونقلها كما هي إلى العالم العربي و الإسلامي دون مراعاة للسياق التاريخي الذي أفرزها ، و دون اعتبار لشروط التحولات الفكرية ، مع تجاهل البيئة و الخلفية الثقافية التي تشكل عقل ووجدان الأمة ، هذا النوع أشبه (بصخرة سيزيف) يدورون في حلقة مفرغة من الجدل العبثي دون إنتاج (حقيقي) و (واقعي) قابل للتطبيق ، ويستطيع أن ينتشل الأمة من حالة التخلف الحضاري ، والتكلس الفكري. وكان من هذا النوع هؤلاء الذين أثاروا قضايا شكلية مثل قضية الحجاب و زي المرأة ، ونادوا بما يسمى (الحرية) أو (التحرير) ، ولا زالت النتيجة كما هي ، و التخلف كما هو ، وهذا يدل على أن طرح هذه القضايا لا فائدة منه إلا زرع الخصومة و العداوة و بث الفتنة والانقسام بين طبقات المجتمع المختلفة ، كما انه يسهم في تعطيل أي مشروع نهضوي . و من النماذج أيضا التي مثلت هذا النموذج ما كان يطرحه لويس عوض ذلك الشاب ذو الثقافة الغربية في مواجهة المجتمع المصري و العربي ، فقد كان لويس عوض كارها للغة العربية مناديا بالكتابة و التعبير بالعامية ، وهذه (الكراهية) لم تكن نابعة من حرص على (القيم الحضارية) بقدر ما كانت (تنفيسا) لأيدلوجيا كامنة ضد هوية الأمة ، و(استفزازا) لمشاعر أبنائها . فليس هناك ما يثبت علميا أن اللغة -أي لغة- تشكل عائقا أمام التقدم الحضاري و النهضة الفكرية ، وخصوصا العربية التي كانت يوما ما لغة الحضارة العالمية . وعندما أصدر لويس عوض ديوانه بلوتولاند وقصائد أخرى عام 1947 ، كتب مقدمة لديوانه بعنوان حطموا عمود الشعر ، شن فيه حملة مسعورة على الشعر العربي ، وعلى أحمد شوقي ، بلغة لا تحمل أي ملامح إصلاحية أو تنويرية ، بل كانت بدافع الكراهية (الأيدلوجية الواضحة) مهما حاول المبررون أن يدافعوا عنه أو يجدوا له عذرا . يقول لويس عوض :" مات الشعر العربي ، مات بموت أحمد شوقي ، مات ميتة الأبد" و مرة أخرى ، فإن لويس عوض لم يستطع أن يخفي عداءه للهوية العربية و الإسلامية ، فكيف يكون تنويريا وهو يحمل ميراثا كبيرا من الكراهية و التجاهل لتراث الأمة ، ولا يمكن أن يوجد مشروع نهضة حقيقي إلا بالاستفادة من (المخزون الثقافي ) لا هدمه و نسفه و معاداته . كما لم يستطع لويس عوض أن يقدم في ديوانه بلوتولاند ، ما يبرهن أو يشي بأنه شاعر حقيقي أو مجدد ، بل هناك شبه اتفاق بين الدارسين على أن ديوان بلوتولاند و قصائد أخرى مجرد محاولة متواضعة من لويس عوض ، وقد صرح البعض بأن لغته ركيكة تفتقر إلى الشاعرية ، ولكي ندلل على هذا الرأي يمكن أن نختار إحدى قصائد الديوان .. وهي قصيدة كيريالسون التي تتبدى فيها ملامح شعر التفعيلة إلى درجة كبيرة . كيريالسون أبي، أبي أبي، أبي أحزانُ هذا الكوكبِ ناء بها قلبي الصبي الرزءُ تحت الرزء في صدري خبي الشوكُ في جفني، حرابُ الهُدُبِ سلّت دميعاتٌ كَذَوْبِ السمّ من جفني الأبي شبّتْ على قلبي سعيرًا مستطيرَ اللهبِ أبي أبي، أبي أبي، أبي أبي، أبي أبي، أبي أبي أبكي دموعَ الناس مختارًا، ودمعُ الأمسِ لمّا ينضبِ لِنْ يا أبي واستجبِ لذي الطوى والسغَبِ والعاشقِ المنتحبِ واللحمِ ينعى اللحمَ تحت التربِ والروحِ يبكي النارَ تفري عصبي والبشريِّ الغِرّ تحت النيرِ كالثور الغبي حولي دماءٌ ورغاءٌ وهدير غضبِ دنياك مأساةٌ أزحتَ السترَ عنها منذ بدء الحقبِ طابت لكَ الرؤيا هنيئًا! ما أنا إلا شقيٌّ بأبي يا مُنجبي يا منجبي، قد طال فيكَ عجبي لغزكَ لن يهزأ بي دنياك قبضُ الريح، قالها نبي أخراك آلٌ ذو بريقٍ ذهبي: عبدُالرمادِ وابنُ دفء البدن المعذَّبِ حنينُه للفجر في ليل الشتاء الغيهبِ مائدةٌ من نسْجِ وهم الطيفِ آريل البهيّ المستبي إنا كأطفالٍ بكوا لما استسرَّ النجمُ خلف السحبِ و يمكن أن نلحظ أن القصيدة و إن كانت جديدة على مستوى الشكل ، فإنها على مستوى المضمون تستعير بعض الألفاظ و الصور التقليدية مثل : الرزء - الطوى – رغاء - دميعات (تصغير فقير فنيا ) ، شبت على قلبي سعيرا مستطير اللهيب ،وهو تركيب وتصوير موغل في التقليدية . و على هذا النهج الأيدلوجي يسير كثير من المثقفين العرب الذين لا يمتلكون رصيدا حقيقيا من الإبداع و الموهبة ، بل مجرد فقاعات جوفاء تبحث عن الشهرة لا عن مشروع نهضوي حقيقي .