بعكس ما قد يرى كثيرون، فإنى لا أراها حماقة من جحا أن يحمل الحمار مع ابنه ويسيران به فى الطرقات، بعد أن أرهقهما الناس عنتًا وتهجمًا ونقدًا أيًّا ما كان سلوكهما، فعندما ركبا الحمار فى أول الأمر انتقدهما الناس ورأوا سلوكهما قسوة على الحمار الضعيف، وعندما ركب جحا وسار ابنه إلى جواره انتقدهما الناس ورأوا جحا أنانيًّا، ومؤثرًا نفسه بالراحة عن ابنه الصغير، وعندما ركب الابن وسار جحا انتقدوهما لعقوق الولد وقلة احترامه لأبيه، وعندما سارا معًا ولم يركبا الحمار انتقدوهما ورأوهما قليلى العقل؛ لأن لهما حمارًا ويسيران على أقدامهما فلا يركبانه.. وهنا كان تصرف (جحا) صرخة احتجاج فى وجه هذا الإسراف فى النقد والاستعداد السابق للتهجم، فحمل الحمار مع ابنه وسارا به فى مشهد عبثى يتسق تمامًا مع عبثية موقف الناس منهما. ربما لم تكن الحماقة من جحا فى أن يحمل الحمار، ولكنها كانت فى انشغاله بالناس، وبما سيقولون إِنْ تصرف على هذا النحو أو غيره.. وما أشبه حال الحركات الإسلامية فى مصر الآن بحال جحا فى هذه النادرة التى توارثها المأثور الشعبى، فالتيارات المناقضة للفكرة الإسلامية وللمشروع السياسى الإسلامى من ليبرالية وعلمانية وقومية، تقف على أهبة الاستعداد والتربص لأى موقف أو مسلك لأى تيار من تيارات الإسلام السياسى، وقد شمرت عن سواعد جدها ونزلت إلى الساحة السياسية بثقل غير سابق فى تاريخ الحياة السياسية فى مصر.. فالهجوم على التيارات الإسلامية جاهز وانتقادها أشبه بالوتر المشدود، ولا شىء سيصدر عن الحركات الإسلامية إلا وله وجه من النقد معلّب وسابق التجهيز، ولا سبيل لأن يرخى وتر النقد المشدود حتى بانسحاب التيارات الإسلامية من الحياة السياسية.. وإن أقرب الشواهد على ذلك هو الموقف من التأسيسية الأولى للدستور، حيث امتثل أعضاؤها – وأغلبهم من الحركات الإسلامية – لحكم محكمة القضاء الإدارى، ولم يطعنوا عليه أمام الإدارية العليا، رغم أن طعنهم كان مرجح القبول والحكم مجددًا بإلغاء حكم مجلس الدولة، ولكنهم – إيثارًا لأقصى قدر من التوافق مع ألوان الطيف السياسى فى مصر – قد انصرفوا إلى تشكيل التأسيسية الثانية، وقد تلاشوا فى تشكيلها كل ما وجه إلى التأسيسية الأولى من أوجه النقد، فهنا انقسم المتهجمون ما بين (متصلب) عند أوجه النقد القديمة التى كيلت للتأسيسية الأولى، وما بين سابق للأحداث ومنتقد لمواد الدستور نفسها وهى لم تزل بعد فى طور الأفكار العامة ولم تصل إلى مرحلة الصياغة النهائية، ولم يقل الشعب كلمته الأخيرة فيها. ولضيق الحيز المتاح للمقال سأكتفى برصد موجز لمظاهر الاستعداد السابق للهجوم ونقد الحركات الإسلامية، فمنها تلك الضجة التى صاحبت مقتل طالب الهندسة منذ شهور قليلة على أيدى بعض الشبان الملتحين الذين جرى إلصاقهم بالحركات الإسلامية السياسية عنوة، ليكونوا مادة خصبة للهجوم الشرس عليها.. فلما تكشفت الحقائق عن أن هؤلاء الشبان لا انتماء سياسيًّا لأى منهم لأى تيار سياسى، لم يكلف أحد المتنطعين المتهجمين على الإسلاميين نفسه بفضيلة الاعتذار عما صبه على الإسلاميين من هجوم وتبجح ضاريين.. ومن ذلك أيضًا ما لم تزل تلوكه أفواههم عن (أخونة) الدولة والاستيلاء على مفاصلها، وشاهدهم السخيف فى ذلك أن أربعة وزراء من بين واحد وثلاثين وزيرًا هم من جماعة الإخوان أو من حزب الحرية والعدالة!!، أو يقال عن المجلس القومى لحقوق الإنسان الذى يشكل كل أصحاب الحركات الإسلامية (فى مصر الإسلامية) أقل من ثلث أعضائه. ولم يعدم الواقع العبثى لنقد الإسلاميين أمثلة أخرى تنصب على قرارات ومواقف الرئيس محمد مرسى نفسه؛ فإزاء قرار الإفراج عن المعتقلين السياسيين فى السجون المصرية، قال من كانوا بالأمس يتصايحون بإلغاء قانون الطوارئ ومحو آثاره (ومنها الاعتقالات العشوائية) إن الرئيس قد أخرج القتلة والمجرمين من السجون، وإزاء دراسة الإفراج عن المحاكمين عسكريًّا من المدنيين قالوا إن مؤسسة الرئاسة تتغول على السلطة القضائية فى الدولة.. وحتى عندما اتصل (بالمشخصاتية) إلهام شاهين (لتطييب خاطرها) بعدما تعرضت له من هجوم كانت هى السبب فيه، حيث قالت فى تهجم وانتقاص من شأن علو المد الإسلامى فى الحياة السياسية فى مصر: لو جرت (أسلمة) الدولة المصرية فسأغادرها إلى بلد آخر!.. فحين اتصل بها لم يسلم من النقد، فقيل إن اتصاله بها غير كاف، وكأن الرجل مطالب (بشنق) من بادلها الهجوم بالهجوم فى معركة هى معركة رأى بالدرجة الأولى.. وهكذا فأيًّا ما كان التصرف الذى سيكون عليه موقف الإسلاميين فهم مستهدفون بالانتقاد إلى حد التجريح والتخوين والاتهامات الجزافية بل العبثية المتناقضة. فالحذر كل الحذر هو ما يتوجب على الإسلاميين كى لا ينشغلوا كما انشغل جحا بالرد على هذه الانتقادات الجاهزة، لأنها لا نهاية لها، وستوقع المسيرة فى دائرة مفرغة من الفعل ورد الفعل، وتصرف الهمم عن قضايا الواقع الاجتماعى والسياسى.. وهذا هو بيت القصيد فى حماقة جحا، وهذا هو الموقف العبثى الذى تقود إليه مهاترات النقد من جانب التيارات المدنية، والدفاع ضد هذه الانتقادات من جانب الإسلاميين. لهذا، فإن الأولى بالإسلاميين هو الانكباب على التطبيق العملى الواقعى الفعلى الحقيقى لمشروعهم النهضوى الإسلامى، هذا المشروع الذى أحدث زلزالاً فى الحياة السياسية وهو لم يزل نظريًّا فكريًّا، فاستحوذ على ثقة وطمأنينة المواطن المصرى المسلم هوية وثقافة وتراثًا، فمنحه تأييده فى أولى الجولات الانتخابية فى ظاهرة أربكت كل حسابات مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأى.. فلم يبق بعد ذلك إلا أن ينشغل أصحاب هذا المشروع الجليل بالهم الأهم، وهو سبر الفجوة وعبور الجسر بين أفق النظرية الفكرى، وواقعها المعيش. لقد شهد القرنان الماضيان وفرة تصل إلى حد الفوضى من النظريات وتيارات الاجتماع السياسى، نظريات كانت براقة، وهى طور المشاريع والأطروحات الفكرية، ولكنها حين انصهرت فى معترك الواقع؛ فقد تلاشت واضمحلت وتقزمت، ولم تبق منها إلا أصداء فى جوف التاريخ.. وليس هكذا الإسلام، لأن النظرية السياسية الإسلامية هى منهج الحياة الأصلح لكان زمان ومكان، هكذا هى حين ينظر إليها كبنيان فكرى، وكنظرية معرفية فى السياسة والاجتماع والاقتصاد والعسكرية، وهذا ما أثبتته هذه النظرية فى وهلات التاريخ القليلة التى أتيح لها فيها أن تعمل فى معترك الحياة؛ لتقف وهلات التاريخ المضيئة بضياء النظرية الإسلامية خير شاهد على مصداقية وجدارة الشريعة الإسلامية ومنهجها للحياة، وهو ما يجب أن يكون الشغل الشاغل لطلائع الحركات الإسلامية، وهى ترسى اللبنات الأولى فى صرح التطبيق العملى للفكرة الإسلامية، فلا تتبدد طاقاتهم فى جدل أشبه بالجدل البيزنطى العقيم، لأن رجال التيارات الإسلامية هم أعرف الناس بظلال الهدى العظيم فى قول الله سبحانه: { قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى فَعَلَيْهَا وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}.