كثر الصخب والضجيج فى حرب هوجاء جوفاء يشنها على أصحاب التيارات الإسلامية زمرة من العلمانيين والليبراليين ومن رقص على حبالهم، وذهبوا فى حربهم القذرة هذه إلى كل وجهة تمثل – بحق – شكلاً سافرًا من الإرهاب الفكرى، إذ تراهم يتقافزون بين شاشات الفضائيات وعلى صفحات الصحف يملأونها صراخًا وبكاء على دولة يقولون إنها اختطفت، وثورة أجهضت وهوية طمست!، وتالله ما هذا كله إلا محض افتراء وحسد من عند أنفسهم، هؤلاء الذين لم تتحرك فى رؤوسهم شعرة ولم تحمر خجلاً من مشهد مصر ما قبل الثورة وما كان ينطق به هذا المشهد من ضياع الهوية ومسخ الشخصية المصرية المسلمة، ولكنهم ينتفضون كالمذعورين حين يرون مصر الإسلامية آخذة بزمام العزيمة على درب مضىء يعود بها إلى معالم هويتها وتراثها وكيانها ووجودها الحضارى: الإسلام النقى من البدع وضلالات الفلسفات الغازية. ولا أتجه بمقالى هذا إلا إلى آذان تستمع القول فتتبع أحسنه، وأفهام لا تسيطر عليها الهواجس والهلاوس المسبقة فى حالة هستيرية كهؤلاء المتصارخين، لألقى بكلمتى فى الشأن الذى يفصح عنه عنوان هذا المقال. فبادئ ذى بدء أقرر حقيقة فكرية وسياسية واجتماعية، مضمونها أن الدين والدولة ليسا شيئًا واحدًا، ولكن بفهم يخالف سطحية العلمانيين وتشدقهم بما يعرفون به عن: مدنية الدولة، وفصل الدين عن الدولة، إلى آخر هرطقاتهم الجوفاء.. فالفهم الذى أعتنقه حول حقيقة اختلاف الدين عن الدولة هو أن: الدين هو وضع إلهى يرشد إلى الحق فى الاعتقادات، وإلى الخير فى السلوك والمعاملات، بينما الدولة هى الجهاز أو السيادة على الإدارة أو مراقبة الأمور المشتركة بين الشعب وباسم الشعب ولصالحه.. فمن هذين التعريفين المبسطين يتضح أن بينهما اختلافًا فى الذات وإن اتحدا فى الموضوع.. أما اختلافهما فى الذات فلأن عناصر الدين هى غيبية وروحية، وهى صلة معنوية بين العابد والمعبود سبحانه.. وأما عناصر الدولة فهى الإقليم والشعب والحكومة.. ثم هما يتحدان فى الموضوع من حيث إنه – فى نهاية النظر – هو أولئك الأفراد الذين يعيشون مؤتلفين ومتعاونين مع بعضهم البعض، أو هكذا يطمح علم الاجتماع السياسى أن تكون الدولة، وهى ذاتها قضية الدين.. وفى هذا يقول الماوردى: ((إن الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه)).. وعن التكامل بين الدين والدولة قال: ((الملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى)). هكذا وبغير شىء من التعصب لهوى يمكن لمن يريد أن يعى ويفهم إدراك أن الدولة التى لا يسرى الدين فى أوصالها وينظم حياة أفرادها، هى دولة هائمة ضائعة كالعود الأجوف الذى نخر سوس الأهواء صلبه، فما أسهل أن تقتلعها هبة ريح.. وأن الدين الذى لا تقوم على حماية حياضه والذود عن محارمه دولة قوية هو دين ضعيف كضعف الغريب بلا وطن.. وليس الإسلام هكذا، لأن فيه من عناصر القوة ما إن أُخذت بقوة فى أمة أو دولة أو مجتمع إلا كان السؤدد والرقى.. هذه العناصر من القوة التى أخذ ببعضها الغرب (الكافر) فى كثير من مظاهر حياته: نظامًا وصدقًا ومسئولية وتعاونًا ونظافة، فكان له من الرقى ما جعله يباهى علينا بما أخذ منا، حتى لقد قال الشيخ محمد عبده قولته الشهيرة: رأيت فى الغرب إسلامًا بلا مسلمين، ورأيت فى الشرق مسلمين بلا إسلام!.. ولذلك قال فى سياق آخر من سياقات أطروحاته التنويرية التى ترتكز على إسلامية الدولة المسلمة وتتخذها منطلقًا لعمران البنيان والإنسان، فعبر عن مصداقية الدولة فى تنفيذ الأحكام الشرعية بقوله: ((لا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضى بالحق، وصون نظام الجماعة)). فهل إلى غير هذا الفهم العميق لترابط الدين والدولة يريد بنا هؤلاء العلمانيون المتصارخون أن نذهب؟.. كلا! فليذهبوا وحدهم إلى كل هاوية من ضلالات الهوى، أما مصر المسلمة فهى قد عادت إلى طريقها السوى بعد أن هبت من كبوات وعثرات قادتها إليها أنظمة فساد كان عنوانها خصام هدى السماء.