فى أول جمعة من ثورة 25 يناير (جمعة الغضب)، كان الجميع يترقب ما الذى سيحدث فى هذا اليوم المحورى الفاصل من ثورات العرب، فى صباح هذا اليوم، كان أحد الزملاء على موعد للرجوع إلى الأردن من القاهرة، بعد أن شاركنا فى مؤتمر إطلاق الشبكة العربية لاستطلاعات الرأى، والذى عقد ما بين الثورتين: التونسية والمصرية، حيث أكدنا فى هذا اللقاء وكتبت بمناسبتها عن أهمية آراء وإرادة الشعوب. غادر زميلنا فى (جمعة الغضب) كما هو مرتب له مسبقا، ولكن قبل خمس ساعات من موعد الطائرة، حاولت أن أستفزه ممازحا بالقول إنه من الهاربين أو المحرومين من مشاهدة هذا الحدث الفارق فى تاريخ تحرر الشعوب العربية. فى ذات الصباح اكتملت عملية قطع الحكومة لشبكات الاتصال والإنترنت لتشمل منطقتنا - كما كان متوقعا؛ لذا لم نستطع التواصل مع زميلنا والاطمئنان عليه إلا بعد خمسة أيام من وصوله الأردن! هذه الخطوة الغبية (قطع الاتصالات) من قبل الحكومة زادت من غضب الناس فوق غضبهم فى (جمعة الغضب)، تشجعت حينها أن أذهب إلى أكبر مسجد فى مدينة 6 أكتوبر، فخرجت من بيتى فى الحى المتميز متجها إلى الحى السابع حيث مسجد الحصرى، فرأيت أن جموع الأمن المركزى احتشدت فى الميدان، فأوقفت السيارة فى مكان بعيد؛ حفاظا عليها أو لسرعة الهروب (باعتبارى غير مصرى وحتى لا تكون تهمة إرهابيين من الخارج جاهزة للنظام). فى المسجد كان كل واحد منا ينظر ويرتقب ما الذى سيحدث، انتهت الخطبة، لا أدرى كيف انتهت، أحيانا أشعر أنها كانت طويلة، وتارة أشعر أنها كانت قصيرة مثل لمح البصر. المشهد المضحك أن الخطيب قبل أن يبدأ بالصلاة، وكعادة معظم أئمة مساجد مصر، قال: "الرجاء إغلاق المحمول" - ناسيا أن الحكومة أسقطت الشبكات – فصاح الناس: "يا شيخ، هو فيه شبكة"!! أنهينا الصلاة بخشوع مختلف جدا، ثم بدأ الناس ينظرون حولهم فى انتظار وترقب لثوانٍ معدودة لا تنسى، وإذا بأحدهم يصرخ بصوت عال يخرج من القلب إلى القلب: "تحيا مصر"، لا أعتقد أنى سأنسى هذا الموقف طوال حياتى؛ فهو بالنسبة لى.. بداية الثورة. بدأ الناس يخرجون لمواجهة الأمن المركزى وجها لوجه، سلميا، بهتافات بدأت بحب مصر والحرية والعدالة الاجتماعية، ثم زادت حدة وخصوصية هذه الهتافات، مثل: "يا جمال قول لأبوك، كل الشعب بيكرهوك"، وبعدها اشتدت: "يسقط يسقط حسنى مبارك"، و: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم بدأت الجموع تزحف، فحرقت صور الرئيس. (سنعود إلى ذكريات حرق صور الحكام فى وقفة لاحقة من ذكريات الثورة). تأججت الثورة، وزادت، إلى أن تغلبت الجموع الشعبية على الأمن المركزى، ثم اقتحمت قسم الشرطة، ليفر الضباط والأفراد باللباس المدنى، وربما انضم بعضهم إلى الشعب كما ذكر لى أحد أفراد الشرطة (الذى سأحكى قصته لاحقا) بعد الثورة ، حينما التقيته وهو راجع إلى مدينة الفيوم، حيث قال بالعامية: "نعمل إيه بقى يا بيه.. نضرب بعضنا.. قلعنا العسكرى وشردنا"! هذه الهتافات فى بداياتها ونهايتها تثير التساؤل.. لماذا تحب الشعوب بلادها وترفع أعلامها؟ وتكره حكامها وتحرق صورهم؟ لماذا هتفنا لمصر وبحياة مصر، وطالبنا بإسقاط مبارك، ومزقنا صوره؟ نعم، إن حب البلدان من الفطرة، وفى الثورة المصرية كان عاملا داخليا عميقا لإسقاط النظام وحكامه الفاسدين. قدمت بحثا فى أحد المؤتمرات مؤخرا حول كيفية توظيف استطلاعات الرأى لمعرفة الصورة الذهنية عن الشعوب والدول الأخرى، وذكرت بعض النماذج فى تنفيذ استطلاعات رأى لمعرفة شعور المسافرين الأمريكيين عندما يذهبون إلى كندا أو المكسيك،.. قلت حينها إننا فى عالمنا العربى نحتاج أيضا إلى استطلاعات رأى لقياس شعور المواطن نفسه عندما يعود لبلده، فربما تتأثر مشاعره بمن يديرون البلاد على حساب حب الوطن، بل ويزداد حقدا إذا صاحبَ دخول بلده توقيف، وحجز جواز سفره، وثم مسائلات عن موقف أو مقال، وغيرها! أعتذر إليك يا وطنى؛ فلطالما غضبت منك لما رأيت منافقين تمتعوا بخيراتك، وقبضوا ثمن نفاقهم وتطبيلهم وسكوتهم المحرم. وفى المقابل، رأيت مخلصين سُلبوا حريتهم، ونُكل بهم، وضيق عليهم بسبب مواقفهم وأفكارهم. هذه المحطة من محطات الثورة المصرية صححت تفكيرى فى التفريق بين تراب وطنى ومن يحكمون هذا الوطن بالظلم والفساد، ونهب الثروات، وارتكاب المحرمات. فلا ينبغى لظلم الحكومات أن يجعلنا نكره بلادنا، فحب الأوطان من الإيمان، وحب البلاد كان وسيبقى مشعلا لتغيير هذه الحكومات الفاسدة كما حدث فى ثورة مصر وثورات العرب.