مائة عام تمر هذا الشهر على ميلاد(السادات) 25/12/1918الرئيس الثالث للجمهورية وأقرب الناس إلى الرئيس الثاني (البكباشى جمال حسين عبد الناصر)..عاش السادات من هذه المائة 63 سنة أربعون منها تقريبا قضاها في العمل السياسي السرى والرسمي اختتمها برئاسته للبلاد 11 سنة . كتب السادات سيرة حياته بنفسه في كتاب مشهور(البحث عن الذات)..العنوان يشير الى مزاج فلسفى عميق لكن سطور الكتاب لا تشير الى ذلك وأيا من كان الذى قام بتحرير الكتاب فأنت في نهاية الأمر أمام سيرة عادية تكاد تتشابه مع سيرة كل من احترف العمل العام في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر الحديث ثم كتب هو بنفسه عن نفسه . السادات في الأصل ينتمى الى المؤسسة العسكرية التى خلفت العائلة المالكة( عائلة محمد على مؤسس مصر الحديثة) في حكم مصر,لم تطل خدمته في الجيش بسبب حركة الضباط في يوليو 1952 وهذا الأمر فرضه البكباشى /جمال حسين عبد الناصر على كل أعضاء الحركة باستثناء (عبد الحكيم عامر) الذى تسلم وحده أمر القوات المسلحة لأسباب أمنية بحته وقد كانت هذه هى النصيحة الذهبية له من الرئيس السورى أديب الشيشكلى قائد الانقلاب العسكري الثالث في تاريخ سوريا!! إذ قال له صراحة ليس هناك خطر عليك إلا من الجيش وعليك بتأمينه أولا وثانيا وثالثا.. وعمل الزعيم الخالد بالنصيحة الذهبية من القمة إلى القاع كما يقولون فكانت 1956 وكانت اليمن ثم ثالثة الأثافى هزيمة كل يوم 1967م .. الأمن الشخصى للزعيم الخالد وهيبته الزعامية كانا يفوقا في اهتماماته أمن الوطن عشرت المرات..بل إن قرار سفر الجيش للحرب في اليمن عام 1962 كان بالأساس بعد وصول العلاقة بينه وبين المشير الى الصفر فأخذ القرار متصورا أنه سيتمكن به من الاقتراب من مملكة المشير الحصينة (الجيش)ويتحرر من ذلك الخوف المخيف (وتخلص في ثلاثة شهور.. كما قال) لكن أنتوني نتنج صاحب كتاب(ناصر- مكتبة مدبولى)والذى كان المفاوض الرئيسى مع ناصر سنة 1954 في اتفاقية الجلاء والذى مُنع من دخول إسرائيل لأنه قال أن مسألة فلسطين لا يمكن أن تحل إلا بالقوة(أين كنت يا محمود عباس ؟)وأن الأمر متروك للفدائيين الفلسطينيين ليصلوا إلى حل(أين كنت يا حماس)!! هذا الرجل قال عن حرب اليمن في كتابه: عوامل عديدة دفعت الرئيس المصري لإرسال قوات مصرية إلى اليمن ومن بينها انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961وكان عبد الناصر يريد استرجاع (هيبته)بعد انفصال سوريا..أنتهى كلام نتنج والذى بالمناسبة له كتاب بعنوان(العرب_ انتصاراتهم وأمجاد الإسلام) نشرته مكتبة الأنجلو المصرية .. ويعتبر من أكثر الكتب الغربية انتصارا للعروبة والإسلام . لكن المسألة اليمنية امتدت خمس سنوات قدمت فيها القوات المسلحة المصرية (55,000 جندي في 13 لواء مشاة/ فرقة مدفعية /فرقة دبابات/ وعدد من قوات الصاعقة وألوية المظلات) المؤرخ الإسرائيلي ميخائيل أورين قال أن مغامرة مصر العسكرية في اليمن كانت كارثة لدرجة أنه يمكن مقارنتها ب(حرب فيتنام)وبحلول عام 1967كان هناك 55,000 جندي مصري مرابطا في اليمن من ضمنهم الوحدات الأكثر خبرة وتدريبا وتجهيزا في كل القوات المسلحة المصرية. وخلق غيابهم عن أرض الوطن فجوة في الدفاعات المصرية. وأثر ذلك كثيرا على مصر خلال حرب يونيو 1967. الطريف أن الزعيم الخالد حمل السادات بعد ذلك مسئولية هذه الورطة على أساس أن السادات هو الذى أشار عليه بتوسيع حجم العمليات العسكرية المصرية فى اليمن!! كما ذكر د/حمادة حسنى أستاذ التاريخ الحديث بجامعة قناة السويس في جريدة (اليوم السابع) 12/11/2008 .. وهو ما ذكره أيضا الفريق عبد المنعم خليل في مذكراته(حروب مصر المعاصرة) نشرته دار الكرمة. كان الأديب الكبير نجيب محفوظ قد سافر ضمن وفد من الأدباء إلى اليمن بأمر شخصي من عبد الحكيم عامر كما قال له يوسف السباعى والحس الأمنى عند أديب نوبل الكبير كان عاليا جدا لذلك ورغم كراهيته الشديدة للسفر اضطر للسفر..فمن ذا الذى يخالف المشير ورجال المشير؟ كان معه أيضا الأساتذة :مهدى علام أنيس منصور صالح جودت محمود السعدنى ومحمود حسن إسماعيل. عام 1969 نشر محفوظ مجموعته القصصية(تحت المظلة) منها قصة(ثلاثة ايام في اليمن)..الحاصل انه أورد فيها نكتة طريفة على لسان الراوى..أن بعض الخبثاء كانوا يقولون عن أغنية أم كلثوم الشهيرة(ح أسيبك للزمن)..(ح أسيبك لليمن !)متندرين على تلك الكارثة التى حطت على رأس الزعيم الخالد ورجاله الخوالد خلودا خليدا..وطبعا النكتة من خيال أديب مصر الكبير والذى كان صاحب بديهة فكاهية عالية . سأتحدث هنا في هذا الجزء من المقال عن أهم محطة في حياة السادات وهى محطة مايو 1971 والتى كادت ان تكلفه كل حياته وتكتب نهاياته. فبعد أن تأكد كبار رجال الدولة من وفاة الزعيم 28/9/1970 غادر الجميع غرفة نومه إلى الصالون وجلسوا يعزون أنفسهم ناظرين فى ترتيبات المستقبل ,كل رجال الرئيس كانوا هناك.. نائب الرئيس أنور السادات /والأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربى (التنظيم السياسى الوحيد) على صبرى /ووزير الحربية الفريق فوزى/ ووزير الداخلية شعراوى جمعة /ومدير مكتب الرئيس سامى شرف /ووزير الإعلام وصقر الصقور الأستاذ هيكل الذى بادرالحاضرين بكلمة عن الشكل الذى يجب أن يتم به انتقال السلطة والذى يجب أن يعكس(الشرعية) قائلا :أن الشكل الأول القابل للتحقيق هو أن يتولى أنور السادات منصب رئيس الجمهورية بحكم وضعه كنائب لرئيس الجمهورية ويمارس صلاحيات الرئيس حتى انتهاء المدة المتبقية على رئاسة الرئيس الراحل عبد الناصر..والشكل الثاني أن يبقى السادات رئيسا للجمهورية حتى إزالة آثار العدوان وهو الحد الزمني الذي وضعه الرئيس جمال عبد الناصر عندما قبل(التكليف الشعبى!!) بالعودة إلى السلطة يوم 10يونيو1967 على أن تجرى انتخابات رئاسية جديدة بعد ذلك..وأمام هذا التناقض الذى ألقاه الأستاذ هيكل فى وجه الحاضرين..تم الاتفاق بين الجميع على ترشيح أنور السادات لفترة رئاسية جديدة ومنفصلة عن فترة عبد الناصر نظرا لعدم توافق الصيغتين السابقتين والمقتضيات الدستورية التي تستلزم وجود رئيس منتخب يتولى تلقائيا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة..كان الأستاذ هيكل ونائب الرئيس أنور السادات فى حقيقة الأمر يمثلون جبهة واحدة..ليس عن حب وتراضى ولكن لوجود عدو مشترك يجمعهما..وهو الجبهة الأخرى التى كانت تجلس قبالتهم فى الصالون وهم ببساطة شديدة كانوا الدولة : وزير الحربية ووزير الداخلية ورئيس الاتحاد الاشتراكي وكاتم أسرار الرئيس ومدير مكتبة والوزير المسئول عن كل شئون الرئاسة. لم تكن الجبهة الأولى (السادات وهيكل)تملك إلا سلاحا واحدا فى مواجهة كل هؤلاء الأشاوس وهو سلاح(الشرعية) لذلك لم يتردد الأستاذ هيكل كثيرا فى اعتلاء ناصية الموقف ..وهو المشهور فى تاريخه كله بسرعة المبادرة ومباغته عدوه فى مكمنه..وكان حديثه القاطع عن(الشرعية).. سنقرأ بعد ذلك فى مطويات التاريخ..أنه فى أخر انتخابات للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي فى عهد الرئيس عبد الناصر حصل علي صبري على أعلى نسبة من الأصوات( 134 صوت) بينما حصل السادات على( 118 صوت)..وهوما جعل الرئيس عبد الناصر يسأل شعراوى جمعة وزير الداخلية عن سبب تراجع أصوات المؤيدين للسادات فيجيبه الرجل:لقد فعلنا المستحيل مع الأعضاء حتى يصل السادات لتلك النسبة فيرد الزعيم خالد الذكر أبو خالد : طيب لو كنتم ما عملتوش المستحيل كان جرى إيه ؟وضحك أبو خالد وركب سيارته وغادر مبنى الاتحاد الاشتراكي وبصحبته السادات الذي كان يستمع لهذا الحوار!!..ستظل علاقة الرئيس عبد الناصر بالسادات أحد أهم مفاتيح( المغاليق الفولاذية) لمعرفة كل شىء عن دولة يوليو وكل ما ترتب عليها ليس ذلك فقط من معرفة بدايات العلاقة بينهما فى ظل التعاون المشترك بينهما مع المخابرات الألمانية(معظم الحركات الوطنية كانت على صلة بالمخابرات الألمانية على فكرة)..ولكن فى تفاصيل أخرى كثيرة ..أهمها تعيين الرئيس السادات نائبا له عام 1969م والأهم هو تلك القصة التى رواها الأستاذ هيكل عن إخفاء سر العملية (عصفور) عن السادات..حيث زراعة أجهزة تنصت واستماع داخل مبنى السفارة الأمريكية بالقاهرة في ديسمبر 1967..كان يعلم بسر العملية (عصفور)حوالي عشرة أشخاص في مصر كلها ليس من بينهم أنور السادات..وذلك بأوامر صارمة من الزعيم الخالد ذاته.الجبهة الأخرى (علي صبري و شعراوي جمعة و الفريق محمد فوزي و سامي شرف )رفضوا بعد وفاة الرئيس عبد الناصر أن يعرف الرئيس الجديد (السادات) بسر العملية (عصفور)لعدم ثقتهم فيه ولأن بعض ما وصلهم عبر تلك العملية به ما يدين الرئيس السادات ويستوجب محاكمته أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي..معرفة الرئيس السادات بسر العملية (عصفور)حدثت قبيل انقلاب مايو عام 1971 وكان الأستاذ هيكل هو الذي أطلع السادات على السر. هكذا كانت مصر فى دولة يوليو العظيمة..وليس سوى التاريخ من يمكنه ان يحكم على كل ذلك.. ونكمل إن شاء الله في الجزء الثانى من المقال.