يعرف الجميع ما قام به رفاعة رافع الطهطاوي، أحد أبرز قادة النهضة العلمية في مصر، ورحلته العلمية إلى باريس في عصر محمد علي، لكن البعض لا يعرف أن الطهطاوي قضى فترة من حياته في السودان، وذلك في عهد الخديوي عباس الذي حكم ما بين 1848 و1854، وذلك لخلاف بين الطرفين. وكان عباس الأول قد أغلق "مدرسة الألسن" التي أنشأها الطهطاوي واستمرت تعمل لمدة 15 عاماً، وذلك لعدم رضاه عن سياسات العهد السابق في عصر جده محمد علي وعمه إبراهيم باشا. وجاء الإغلاق بعد عام من تولي عباس الأول الحكم، ليجد الطهطاوي نفسه في الخرطوم. وقد صدرت أوامر لرفاعة بالذهاب إلى السودان لتولي نظارة مدرسة ابتدائية هناك إبان العهد الثنائي التركي - المصري، الذي استمر من عام 1821 إلى 1885 بدخول قوات المهدي الخرطوم وتحريرها. وقد كان الأمر أشبه بمنفى لرفاعة وإبعاد له عن مصر، لكنه استغل وجوده في السودان بعمله على ترجمة رواية فرنسية شهيرة باسم "مغامرات تليماك" أو "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" لمؤلفها القس الفرنسي فينيلون. وقد صدرت طبعة ثانية لها في عام 2000 عن مطبعة "دار الكتب والوثائق القومية" بالقاهرة، وقدم لها الدكتور صلاح فضل، رئيس دار الكتب والوثائق المصرية وقتها. وقد استغرق الطهطاوي الفترة ما بين 1851 و1854 في ترجمة الرواية المذكورة، التي اعتبرها النقّاد في عصرها صورة فاضحة للملك لويس الرابع عشر، حيث تضمنت نقداً لاذعاً وحاداً لسياساته. ونشرت الرواية لأول مرة عام 1699، وقد عاش مؤلفها في فرنسا في الفترة ما بين 1651 و1765، وهي تقتبس من أشعار الشاعر الإغريقي هوميروس، وتدور في فلكه، حيث تختتم الرواية بانتصار البطولة وقيم العدل والحرية. ويؤكد فضل أن أسلوب ترجمة الطهطاوي يكشف عن الجهد المضني الذي كان يبذله ليجمع بين الدقة والأمانة للأصل والصياغة الأدبية الرفيعة للتعريف. وفي الخرطوم تعامل الطهطاوي مع الواقع الجديد وعمل على إنشاء المدرسة الابتدائية، وكان عدد المنتظمين بها نحو 40 تلميذاً نالوا الإشراف المباشر من مديرهم وتعهدهم بالرعاية الخاصة. وكانت هذه المدرسة صغيرة قياساً لجهد ومشروع كبير كمدرسة الألسن التي ودعها الطهطاوي في مصر، إلا أنه أخلص لهذا العمل الجديد. ويعكس شعر الطهطاوي روحاً متذمرة جراء ما حصل معه ونفيه إلى السودان، فقد كتب قصيدة يصف فيها حال فترته هناك بالخرطوم فيها غضب على كل شيء، بما في ذلك الناس والطقس في البلاد. وتكشف أشعار الطهطاوي عن شخصية رافضة للواقع الجديد، حتى لو أن ممارساتها مع الناس كانت مختلفة، غير أنه من الجلي أن الطهطاوي كان ناقماً على ما حصل معه من إنهاء مشروعاته في مصر. ووصف الطهطاوي في أشعاره مظاهر من الحياة السودانية مثل "البطان"، وهو جلد العريس بالسوط في يوم فرحه. كما يتعرض لظواهر اجتماعية كالختان والبغاء وغيرها. وقد انتهت إقامة الطهطاوي في السودان عام 1854 حيث عاد إلى القاهرة بمقتل عباس الأول، وأسندت إليه في عهد الحاكم الجديد عدة مناصب تربوية. وتبقى فترته في السودان خصبة بالكثير من الذكريات والروايات التي يمكن أن تحكى، في حين أن القليل ما هو معروف عنها في ظل ضعف التوثيق والاهتمام. ويعتبر الطهطاوي من قادة النهضة العلمية والأدبية في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد عاش في الفترة من 1801 إلى 1873، وهو من مواليد مدينة طهطا، بمحافظة سوهاج . وقد سافر رفاعة الطهطاوي إلى باريس في فترة مبكرة عام 1826 ضمن بعثة مكونة من 40 طالباً لدراسة اللغات والعلوم الحديثة وكان في منتصف العشرينات من عمره في عهد محمد علي باشا.