مع الأزهري المستنير رقم واحد، رفاعة رافع الطهطاوي. عندما طلب محمد علي باشا، ترشيح إماما لكي يرافق البعثة التعليمية المصرية، مدة إقامتها في فرنسا، كان رفاعة الطهطاوي هو الإمام الزى اختاره الشيخ العطار، شيخ الأزهر. بالرغم من أن الطهطاوي قد رافق البعثة كإمام وليس كطالب، إلا أن السنوات الخمسة التي قضاها في باريس من عام 1826-1831م، كانت أهم خمس سنوات في حياته. فقد استطاع رغم خلفيته الأزهرية التقليدية أن يستوعب الفكر التنويري الأوروبي عند اصطدامه به. وأن يتفاعل معه تفاعلا خلاقا يتماشى مع النهضة التنموية التحديثية التي كان يقودها محمد علي باشا. قام الطهطاوي بدراسة اللغة الفرنسية. أتقنها إتقانا تاما في ثلاث سنوات. كان يستعين بمدرس خصوصي على نفقته الخاصة. قام بقراءة كتب التاريخ القديم والفلسفة اليونانية، وكتب في الميثولوجيا والرياضيات والمنطق. وتراجم عن حياة نابليون، وكتب متنوعة عن الشعر الفرنسي، لشعراء مثل راستين، ورسائل اللورد شيسترفيلد، ومؤلفات فولتير وروسو وكوندياك ومنتسكيو. وكتب أخرى عن الهندسة وعلوم الحرب والمعادن والقانون. لقد تركت أفكار الثورة الفرنسية، رواسب عميقة داخل نفسه بالرغم من تعليمه الأزهري السابق. كان يعتقد أن المجتمع الصالح، هو المجتمع المبني على أسس العدالة. وأن الهدف من الحكومات، هو رعاية مصالح المحكومين. وأن الشعب لا بد له من المشاركة في الحكم. لذلك يجب إعداد أفراد الشعب لهذا الغرض. كان يرى أن القانون يجب أن يكون ديناميكيا. يتغير تبعا للظروف. وأن الحكام الصالحين في وقت ما، ليسوا بالضرورة صالحون في كل وقت. وأن حب الوطن هو أساس كل الأخلاق السياسية. أثناء إقامته في باريس، قام الطهطاوي بالاتصال بعلماء الحملة الفرنسية المستشرقين. كانت حضارة مصر القديمة قد ملكت عليه كل وجدانه. كان هذا يدل على فهم الطهطاوي الصحيح والمبكر لقضية الأصالة والمعاصرة. كان يعي بعمق معنى الكلمات التي خاطب بها أحد علماء الحملة الفرنسية (جومار)، طلاب البعثة المصرية في حفل أقيم عام 1828م لتوزيع الجوائز على الناجحين حيث يقول: "إنكم منتدبون لتجديد وطنكم الذي سوف يكون سببا فى تمدين الشرق بأسره...أمامكم مناهل العرفان فاغترفوا منها بكلتا يديكم..." عندما عاد الطهطاوي إلى مصر، نشر ملاحظاته عن المجتمع الفرنسي فى كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز. الذي ترجم إلى اللغة التركية وعدة لغات أخرى. به ملاحظات الطهطاوي عن الشعب الفرنسي. فهم محبون للنظافة والتعليم والعمل. لا يميلون إلى الكسل، وبهم شغف للمعرفة والاستطلاع. في علاقاتهم العامة، يثقون في بعضهم البعض. ونادرا ما يخدع أحدهم الآخر. يحتل كتابه تخليص الإبريز أهمية خاصة بين تلك المؤلفات. فهو بحق أول نافذة أطل منها العقل العربي على الحضارة الغربية الحديثة. يعتبر أشهر كتب الرحلات العربية في العصر الحديث. هو البيان الفكري الأول للبرجوازية المصرية الناشئة. وأول كتاب عربي، يعرف الفكر الليبرالي من ناحيته النظرية والتطبيقية. إلى جانب عرضه لنظم الحكم الدستورية الأوروبية. أهم ما في الكتاب، الفصول التي تتعرض لوثيقة إعلان حقوق الإنسان، التي جسدتها الثورة الفرنسية بتأثير من فلاسفة عصر التنوير. وترجمته للدستور الفرنسي، دستور عام 1814م. ثم عمل الطهطاوي في الترجمة في المدارس الحديثة التي أنشأها محمد على باشا. في عام 1836م، عمل في مدرسة الألسن، ثم رئيسا لتحرير جريدة الوقائع المصرية. قام في هذه الفترة بترجمة ما يقرب من العشرين كتابا في الجغرافيا والتاريخ والعلوم العسكرية. وأشرف على ترجمة المئات من الكتب الأخرى إلى اللغة العربية والتركية. منها كتب في التاريخ القديم، وتاريخ العصور الوسطى. وتاريخ ملوك فرنسا، وحياة فولتير وبيتر الكبير، وحياة تشارلز الثاني عشر والإمبراطور شارل الخامس وبطرس الأكبر والاسكندر المقدوني وغيرها. كانت تراجمه لمشاهير وعظماء العالم بطلب من محمد علي. نظرا لاهتمامات محمد علي الشخصية بحياة العظماء. لأنه كان يحاول تقليدهم والاستفادة من سيرهم. لكن أعمال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو (ابن خلدون الغرب)، كانت من اختيار الطهطاوي نفسه. عندما توفى محمد على وخلفه عباس الأول عام 1850م. استهل حكمه بتصفية معظم المدارس والمؤسسات التحديثية التي أنشأها جده محمد علي. من بينها مدرسة الألسن. وجاهر باحتقار الثقافة الغربية وأتباعها. وشرد دعاة التحديث وعلى رأسهم الطهطاوي الذي أبعد إلى السودان. لكي يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية بسيطة عام 1850م، لمدة أربع سنوات. فحل الجهل والتخلف في البلاد من جديد. وقويت شوكة الإقطاع والعناصر الغير مصرية. لكن بمجئ سعيد باشا إلى الحكم عام 1854م، عاد الطهطاوي إلى القاهرة ليواصل عمله السابق كرئيس لمدرسة الألسن. والمشرف على أعمال الترجمة. وفى عهد إسماعيل باشا، ازداد نفوذ الطهطاوي، واشترك في وضع السياسة التعليمية للدولة المصرية. وشجع طبع الأعمال الأدبية العربية العريقة، مثل أعمال ابن خلدون في المطبعة الأميرية ببولاق. في السنوات الأخيرة قبل وفاته، نشر عدة مقالات في إصدارات وزارة المعارف. وألف كتابا عن تاريخ مصر وعن التعليم. مثل كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين. وكتاب مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية. كتابه الأخير يوضح الاتجاه الليبرالي الذي رسمه الطهطاوي للمجتمع المصري. كيف كان المجتمع المصري في الماضي، وكيف فقد طريقه. وكيف يعود إليه. يوضح نظرية الطهطاوي في التعليم المصري. التي أتبعت في عهد إسماعيل باشا والحكام الذين أتوا بعده. كان ينادي بالإصلاح التدريجي في نظام الحكم. فالحاكم يجب أن تكون سلطاته مقيدة بالقوانين. والحكومة يجب أن تكون مسئولة أمام ممثلي الشعب. أما بالنسبة للشريعة، فهو أول من أشار إلى فتح باب الاجتهاد. كان من رأيه أنه لا تعارض بين الشريعة والقوانين الوضعية. أي أن الشريعة يمكن أن تفسر في ضوء الحاجات والمتغيرات الحديثة. مما يضمن للمجتمع ديناميكيته، لإيجاد الحلول لمشاكله أولا بأول. إذا أراد رجال الدين تفسير الشريعة في ضوء احتياجات العصر، فعليهم أن يكونوا على دراية وفهم عميق باحتياجات العصر. فالطبيب يجب أن يفهم الداء قبل أن يصف الدواء. فقد كان الطهطاوي يرى أن الفلسفة والعلوم الحديثة، كانت موجودة فى العالم الإسلامي إلى وقت قريب. لكنها ذبلت في عصره. نظرا لإتباع رجال الأزهر سياسة عدم قبول العلوم الحديثة اللازمة للنهوض بالدول. مثل علوم الاجتماع ونظم الحكم والاقتصاد. فالأطباء والمهندسين والاقتصاديين، يجب أن يكون لهم الاحترام الذي يحظى به رجال الدين. العامة يجب تدريبهم على فهم حقوقهم السياسية. والحكام يجب أن تخاف الرعية. وأن تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هي علاقة بين الحقوق والواجبات. الثروة القومية وصلاح الأمة يعتمدان على أخلاقها. طالما كانت الأخلاق قوية، كانت الأمة عظيمة. الطريق إلى الأخلاق هو التعليم. التعليم يجب أن يكون متصلا بمشاكل الوطن. التعليم الابتدائي، يجب أن يكون إلزاميا للجميع. التعليم الثانوي يجب أن يكون رفيع المستوى. المرأة يجب أن تتعلم مثل الرجل. هو بذلك يكون أول من نادي بتعليم المرأة ومساواتها بالرجل قبل قاسم أمين بعدة عقود. تعليم المرأة ضروري لثلاثة أسباب: الأول، هو التوافق في الزواج وتربية الأولاد تربية جيدة. الثاني، لإعدادها للعمل في الأعمال المناسبة لها إذا دعت الحاجة لذلك. السبب الثالث، لحمايتها من الحياة الخاوية التي تحياها المرأة الجاهلة وسط باقي النساء الجاهلات. يواصل الطهطاوي آراءه في التعليم فيقول أن التعليم يجب أن يهدف إلى تكوين الشخصية الصالحة عند الفرد. وليس مجرد تجميع معلومات. لذلك يجب أن تهتم المدارس بالأنشطة المختلفة والرياضة البدنية. يجب أن تراعي النواحي الصحية فى عدد التلاميذ في الفصل الواحد. والإشراف الطبي والنظافة وخلافه. كما يجب أن تنمي المدرسة المثل والأخلاق الكريمة فى نفوس الطلبة وتشجع الصداقة المخلصة والشجاعة وحرية إبداء الرأي والعفو عند المقدرة واحترام الوالدين وكبار السن وما شابه ذلك من قيم نبيلة. أهم من كل ذلك، الاهتمام بغرس حب الوطن في نفوس التلاميذ. حب الوطن هو الدافع الرئيسي لبناء المجتمعات المتحضرة. نلاحظ أن الطهطاوي في كتبه، كرر ذكر حب الوطن مرارا وتكرارا. كأنه أراد أن ينبه جيله والأجيال القادمة بأهمية حب الوطن في بناء المجتمعات الحديثة. هذا ما رآه في فرنسا أثناء إقامته في البعثة التعليمية. فواجبات الفرد نحو وطنه عديدة. منها: الوحدة الوطنية، والامتثال للقانون، والتضحية بكل ما هو رخيص وغال في سبيله. وطنية رفاعة كانت مصرية علمانية صحيحة. لا إسلامية أو عربية. تشمل قدماء المصريين، وأبناء مصر غير المسلمين. وكانت وطنيته تعتبر تقدما وتطورا وحضارة. ترتبط بنظام سياسي علماني يحفظ الحياة ويصون العدالة والمساواة بين جميع المواطنين. وينمي الاقتصاد ويطور المؤسسات العلمية. لتساهم جميعا في نشر ثقافة عقلانية تؤدي إلى ازدهار مصر وعظمتها التي كانت لها يوما في قديم الزمان. أما حقوق الفرد فهي الحرية: حرية الرأي، حرية التعبير، حرية اختيار الحاكم، وحرية اختيار من يمثلونه في المجالس النيابية. الحرية فقط هي التي تخلق الوطنية. نلاحظ هنا أن ابن خلدون كان يرى أيضا أن الوطنية، ويسميها العصبية، هي أساس وحدة وقوة المجتمعات. إلا أن ابن خلدون كان يرى العصبية تعتمد على صلة الرحم والدم، بينما الوطنية التي ينادي بها الطهطاوي، تعتمد على صلة المكان والأرض. ففي كتاب المناهج يقول الطهطاوي: "إن كل ما يربط المؤمن بأخيه المؤمن في العقيدة، يربط أيضا المصري بأخيه المصري في الوطن. لأن رباط الوطن يأتي قبل رباط الدين. فهناك التزام خلقي لكل من يشارك في نفس الوطن. لكي يعمل على رفعة ومجد هذا الوطن" لكن ما هي هذه الوطنية التي ينادي بها الطهطاوي؟ ينادي الطهطاوي بالوطنية المصرية التي تشمل كل من يعيش على تراب مصر. مصر بالنسبة له شئ مختلف. يبدأ تاريخها المتصل منذ عصر الفراعنة إلى العصر الحديث. كتب شعرا أثاء إقامته في باريس، يمدح فيه الفراعنة. لم تكن مصر القديمة مجرد موضوع للفخر والتباهي فقط. لكنها بالنسبة له، كانت جذورا عميقة للحضارة والخلق والازدهار الاجتماعي والاقتصادي. لم يكن الغرب بالنسبة للطهطاوي، مجموعة من الدول الاستعمارية التى يجب مقاطعتها ومحاربتها وحماية أنفسنا من حضارتها، كما يحمي السليم نفسه من الأمراض المعدية. لكن الغرب كان بالنسبة له، هو العلوم الحديثة والثقافة والفكر والأدب والسياسة والاقتصاد الحديث والأسلوب العلمي فى حل المشاكل. الطريق الوحيد للاستفادة من علوم الغرب، هو طريق الاحتكاك المباشر. أي طريق البعثات والتجارة والصناعة. هنا يقول: "مخالطة الأغراب، لاسيما إذا كانوا من أولي الألباب. تجلب للأوطان من المنافع العمومية، العجب العجاب" لكن تحذير الطهطاوي من بعض جوانب الحضارة الغربية، لا يعني من قريب أو بعيد الرفض الكامل لها. لأن الانفتاح على الغرب، وتعلم لغاته وحضارته، لا يشكل الخطر الذي يتخوف منه رجال الدين وبعض مفكري الشرق. إن الخطر الحقيقي الذي يواجهه العالم الإسلامي اليوم، هو خطر عدم الانفتاح على الغرب. وللحديث بقية نكمل سلسلة مشايخ ومشايخ مع العالم الأزهري رقم اثنين، طه حسين إن شاء الله تعالي .