فى طفولتى البعيدة قبل ستين عامًا أو يزيد، كانت الأسر الغنية تزف العرسان بالمزيكا، وكانت تُحضر مع المزيكا ما يسمى بالعوالم والغوازى الذين يغنون ويرقصون ويمثلون بعض المواقف القصيرة المضحكة، وكان الفلاحون فى القرية يظلون يستعيدون حكاية ما شاهدوه وسمعوه حتى يأتى حدث جديد ينسى الحدث القديم. تطور الزمان وأصبح العوالم والغوازى يسمون بالفنانين والفنانات، وصارت لهم الأسبقية على بقية طبقات المجتمع، فهم الضيوف المقدمون على غيرهم من العلماء والقادة فى قاعة كبار الزوار فى المطارات والموانى، وبرامج التليفزيون والإذاعة وعلى صفحات الصحف والدوريات السيارة، ويجزل لهم الإعلام العطاء مقابل أعمالهم الفنية أو ثرثرتهم الحوارية، وهى الثرثرة التى تدور عادة حول الزواج والطلاق والأغانى المفضلة والأفلام المؤثرة والأدوار الشهيرة وأطرف المواقف وأحب الملابس والأكلات، وماذا تقول فى الحب والحسد والغيرة.. ونحو ذلك. المسألة الآن اختلفت، وتحولت ثرثرة التسلية إلى كلام فى السياسة والتخطيط والإستراتيجية، هناك من يدافع عن بشار الأسد وجرائمه، وينكر المذابح البشعة، التى يرتكبها على مدار الساعة، وهناك الآن من يرتدى ثياب الشجاعة، ويهاجم الرئيس المصرى المنتخب بعد أن كان يخاف قبل الثورة شبح أمين شرطة، وبعضهم يحاول أن يكون زعيمًا سياسيا يفتى فى الأصول، التى ينبغى اتباعها فى قيادة الدولة والتعامل مع الشعب وما يجب أن يكتب فى الدستور، وغير ذلك من قضايا كانت أبعد ما يكون عن حديث القوم واهتماماتهم، خاصة أنه لم يعرف عنهم اهتمام بالوطن أو المواطنين ولم يشاركوا بمليم واحد من الألوف أو الملايين، التى يجمعونها فى مشروع خيرى أو وطنى، أو مساعدة فقير أو محتاج، مع أن بعضهم يدعى انتماءه إلى الكادحين ويزعم اهتمامه بقاع المجتمع، بل إن كثيرا منهم كان يغدر بخادمته أو سائقه ويطرده أو يفضحه بالباطل كى لا يتقاضى حقوقه! وبالغدر أو الفضيحة يحقق شهرة إن كان مغمورًا، أو مزيدًا منها إن كان معروفًا. واحدة منهن تخرج على شاشات التليفزيون لتلعن الثوار وتؤيد النظام الفاسد، وتطلب حرق الثائرين بجاز، ثم تأتى بعد خلع الطاغية لتزعم أنها مع الثورة والثوار! أخرى تدعى أنها ستهاجر وتترك البلاد لو وصل الإسلاميون إلى الحكم، لأنهم سيحرمون الفن وينقبون النساء، ويحاربون الفنانين والفنانات.. ثالثة تأخذها العزة بالإثم فتدافع عن المخلوع وتقول إن الملايين تبكى عليه وتتحسر على يوم من أيامه! هل هؤلاء يمثلون الفنانين الأصلاء؟ أشك فى ذلك ؛ فالفنان الحقيقى صاحب رسالة، ويؤمن بحرية الأمة، ويحارب الطغيان والاستبداد، وما أبعد العوالم والغوازى عن الفن والفنانين! أحدهم يكوّن "ألتراس" ويدخل مع الفلول فى تحالف للدفاع عن "بابا مبارك" وطلب العفو عنه.. وآخر يعلن أنه يتمنى أن يزوره فى السجن ليعلن تأييده له والوقوف إلى جانبه، فقد استقبله وهو فى الحكم لمدة ساعتين أو أكثر واستمع إليه وضحك معه، بينما لم يستقبل عالمًا مصريًا فى الداخل أو الخارج ليسمع منه عن التعليم والبحث العلمى وكيفية النهوض بهما. استدراكًا لما سبق كان النظام السابق يأتى ببعضهم فى الانتخابات المزيفة لتشجيع الحزب الحاكم الفاسد، أو الترويج للمخلوع نفسه، وكانت الصحف المملوكة للنظام تستفتيهم وتضع على ألسنتهم كلامًا مؤيدا للديكتاتور وداعيا له ولحزبه! قبل أيام ظهرت واحدة على شاشة فضائية فلولية أتخم صاحبها بالقروض وأراضى الدولة ولم يقدم لها شيئا يذكر، فقالت المذكورة للمذيعة زوجة الإعلامى الفلولى الكبير: إنها غير مقتنعة بكلمة فلول "فالشعب المصرى كله فلول.." وأكدت أنها كانت مع استمرار الرئيس السابق حتى يكمل مدة ولايته لأنها كانت سترى الأمور أكثر استقرارًا مما نعيشه الآن بعد الثورة، وحتى لا نصبح أمام العالم كله مهينين لرمز كبير - على حد قولها، - مضيفة أن الذين يتشدقون بديمقراطية أمريكا أقول لهم إن أوباما عنده أخطاء كثيرة، وأردفت: إن أكثر الذين ظلموا فى عصرنا الحالى هو الرئيس مبارك! وعندما سئلت المذكورة عن أحد مسلسلاتها المعروضة فى رمضان وتدخل الرقابة بالحذف بسبب انتقاده لأعضاء مجلس الشعب وتعرضه للفساد؟ قالت المذكورة: - المسلسل بدأ تصويره قبل الثورة، والرقابة كانت موافقة عليه، وهذا يؤكد أننا كنا نعيش فى عصر الحريات فى ظل النظام السابق (؟؟ )، لكن حاليا لا نستطيع أن نقول أى شىء، ولو قلنا رأينا يظهر لنا 100 شخص ويتهموننا بأننا أعداؤهم، ولا أعرف كيف تقوم الثورة من أجل الحرية ولم تعطنا الحرية (؟). ونسيت المذكورة أنها عارضت الثورة وأعلنت تأييدها لرئيسها الظالم ولم يعترضها أحد بسوء! بل إنها جعلت موقف الثورة منه عارا وظلما ووصفت موقفه بالمحترم، فقد قالت للمذيعة زوج الفلولى الكبير: "عار وعيب علينا أن نظلم رجلا تخطى الخامسة والثمانين.. ألا يكفى موقف مبارك المحترم عندما قال له الشعب "مش عايزك" وفى خلال 18 يومًا تنازل لإرادة الشعب ولم يعمل مثل الكثير من الرؤساء.. إن ما نراه الآن من قبل جماعات تيار الإسلام السياسى يعود بنا إلى الوراء مائة عام .." وعن خشيتها من ظلم الفن فى عهد الرئيس محمد مرسى قالت الفنانة المذكورة:"لن نسمح أو نقبل بأن يظلم الفن لا فى عهد الدكتور مرسى ولا فى عهد غيره لأن الفن هو مقياس التحضر لأى بلد حيث يقاس مدى تحضر الدولة بثقافتها وفنها، مؤكدة فى الوقت ذاته أنها ستفرض فنها فى غير قنوات الدولة، التى لا يمكن لأحد أن يفرض عليها قيودًا". هذه الأقوال التى سمعتها الملايين ولم يعترضها أحد تؤكد تناقض المذكورة، وهى تدخل منطقة الأفول بعد أن استهلكت مواهبها وشاخت قدراتها وانسحبت عناصر المنافسة فى ميدان الابتذال والسطحية والتعرى لصالح غيرها.