في العام 2007 ، كان الصدام الحقيقي المباشر ، والذي يمثل كسر عظم بين الحكومة المدنية والقيادة العسكرية ، حيث قرر حزب "العدالة والتنمية" الدفع بعبد الله جول لرئاسة الجمهورية ، وهو ما أغضب الجنرالات ، لأن زوجة غول محجبة ، واعتبروا أن هذا السلوك فيه إهانة لتاريخ الجمهورية ، وأن النظام العلماني أصبح مهددا ، وبدأ تحريك الشارع من جديد وتهييج الجامعات ، وعقدت محاضرة حاشدة وتاريخية وقتها لأستاذ كبير في العلوم السياسية دعا فيها الجيش أن يقول كلمته والقضاء أن يقول كلمته ، في إشارة واضحة للانقلاب العسكري ، ولوحظ أن هذه المحاضرة كان حاضرا فيها بعض الجنرالات كما كان حاضرا فيها أحد كبار قضاة المحكمة الدستورية العليا ، كما كان رئيس الجمهورية وقتها "أحمد نجدت سيزر" يتحدث علنا عن أن النظام العلماني في خطر ، وأن الحكومة الجديدة تروج ما تدعيه "الإسلام المعتدل" وأن نموذج تركيا هو العلمانية وحدها ، وكلام تحريضي على هذه الشاكلة . في تلك الأجواء المحمومة والساخنة ، أصدرت رئاسة الأركان تحذيرا علنيا للحكومة وحزبها من الإقدام على تلك الخطوة وأن الجيش لن يسكت على تهديد النظام العلماني للدولة ، فخرج أردوغان بجراءة غير معهودة في السياسيين الأتراك وقتها ، لكي يوبخ قيادة الأركان علنا ويدعوها لاحترام الدولة المدنية والدستور وأن لا تتجاوز دورها الوطني المحدد دستوريا ، وقال أن ما كان يجري سابقا لم يعد ممكنا ولا مقبولا الآن ، كما قال المتحدث باسمه أن رئاسة الأركان مؤسسة تتبع الحكومة ، وأن رئيس الأركان دستوريا مسئول أمام رئيس الوزراء عن قراراته وتصرفاته وأن تركيا دولة قانون ودستور وغير مسموح لأي قائد عسكري أن يتجاوز موقعه الدستوري . كان الرد صاعقا للجنرالات ومفاجئا ، ومبهرا للشعب التركي ، الذي لم يواجه مثل هذه "المعادلة" في العضلات السياسية بهذه الطريقة ، وأعقبه أردوغان مباشرة بالدعوة لانتخابات عامة مبكرة ، وفاز فيها هو وحزبه باكتساح مثل إهانة للمؤسسة العسكرية والانقلابيين ، واعتبر أن هذا التصويت هو تصويت لصالح الإجراءات التي اتخذت لحماية الدولة المدنية من تغول الجنرالات ، وأن الشعب هو الذي يختار الحكومة وهو الذي يحاسبها ولا توجد أي جهة أخرى وصية على الشعب واختياره ، كما نجح عبد الله غول رئيسا للجمهورية ، وظهرت امرأة محجبة في القصر الجمهوري للمرة الأولى في تاريخ البلاد ، بعد أن كانت غير قادرة على الظهور حتى في مدرسة ثانوية أو جامعة ، فاعتبر ذلك تصويتا شعبيا على ما جرى ، أنهى هيبة الجنرالات وطوى صفحة هيمنتهم على الحياة السياسية . وقد حاول الجنرالات في العام التالي مباشرة رد الصفعة من خلال رجالهم في القضاء ، وفي الرابع عشر من مارس/آذار عام 2008 تم رفع دعوى قضائية، بالمحكمة الدستورية العليا في تركيا، تطالب بإغلاق الحزب، وحرمان قياداته من العمل السياسي لمدة 5 سنين. وحدث انقسام داخل المحكمة ، لأنه لم يكن هناك أي مبرر واضح ، والحزب يحظى بشعبية طاغية ، ويحقق إنجازات حقيقية هائلة في البلاد ، ونجا الحزب من الحل في المحكمة بفارق صوت واحد ، حيث صوت خمسة أعضاء مع حل الحزب والحكومة وعزل سبعين من قياداته عن العمل السياسي ، بينما رفض القراء ستة من أعضاء المحكمة ، والجدير بالذكر أن الجنرالات كان لهم مقعدان في المحكمة الدستورية العليا ، وهو الأمر الذي نجح أردوغان في إلغائه بعد ذلك في تعديلات دستورية . بدأ أردوغان منذ البداية التخطيط لعمليات حفر أنفاق سياسية ودستورية أمام العسكر ، لتقليل فرصة تهديدهم للديمقراطية والدولة المدنية ، وتقليم أظافرهم التي يروعون بها الحياة المدنية ، وبدأ ينسج في صبر غريب خططا طويلة المدى ، أهمها ربط تركيا باتفاق أوربي يمهد لانضمامها للاتحاد الأوربي ، وفي أهم شروط عضوية الاتحاد الأوربي عدم تدخل العسكريين في الحياة السياسية ، فشكل ذلك درعا جيدا استفاد منه ، ثم بدأ في "تجريف" تغلغل الجيش في مفاصل الدولة ، فعدل نصا دستوريا كان يمنح الجيش حق حماية الديمقراطية والدولة العلمانية ، وكان هذا النص هو الثغرة التي يدخل من خلالها الجيش كل مرة للانقلاب على الديمقراطية وحل الأحزاب والسيطرة على مقاليد الحكم بحجة حماية الدولة العلمانية ، ثم أعاد تشكيل المحكمة الدستورية بما يلغي وجود اثنين من القضاة العسكريين في أعضائها ، لتكون محكمة مدنية خالصة ، ثم أعاد تشكيل مجلس الأمن القومي لتكون الغلبة فيه للمدنيين وليس للعسكريين ، ثم جعل اجتماعات المجلس ومجلس الشورى العسكري تتم في مقر رئاسة الوزراء وليس مقر قيادة أركان الجيش لترسيخ فكرة أن القرار هو قرار الحكومة المدنية المنتخبة وليس قرار الجنرالات . كان أخطر خطوة أقدم عليها أردوغان لتحجيم خطورة المؤسسة العسكرية على الحياة المدنية والإرادة الشعبية ، هو الاستفتاء الشعبي التاريخي على حزمة تعديلات دستورية في 12 سبتمبر 2010 طالت 28 مادة في الدستور، كانت بمثابة نهاية نظام الوِصاية العسكرية على الحكم المدني في تركيا، واشتملت التعديلات على مادة نصت على إمكانية محاكمة عسكريين لا يزالون في الخِدمة امام محاكم مدنية في قضايا لا علاقة لها بالسلوك العسكري داخل الجيش، وهذه كانت سابِقة في تاريخ تركيا الحديثة، وبمُوجبها أمكن اعتقال العشرات من الضبّاط وتقديمهم للمحاكمة، ومن بينهم جنرالات كبار ليقفوا أمام قضاة مدنيين ، وقد أدين بعضهم بالفعل . استفتاء 12 سبتمبر كان فصل النهاية لنفوذ العسكر في السياسة التركية، لذا عندما قدّم رئيس الأركان وقادة القوات المسلحة الآخرين استقالات جماعية مفاجئة وخطيرة في نهاية شهر يوليو 2011، قبلها أردوغان على الفور ، وبعدها بأيام قليلة ، في 4 أغسطس كان رئيس الجمهورية عبد الله جول يصدق على قرارات أردوغان تعيين الجنرال نجدت اوزال رئيسا للقوات المسلحة كما وافق على تعيين قائد جديد لكل من القوات البرية والبحرية والجوية . قبل أردوغان كان كبار السياسيين والوزراء ورئيس الوزراء ينتظر رأي الجيش لاتخاذ أي قرار ، بعد أردوغان انتهت تلك المعادلة ، وأصبح القرار سياسيا مدنيا خالصا ، لرئيس الوزراء المدني المنتخب ، ليعزز الزعيم السياسي "التاريخي" مدنية الدولة التركية ، ويضعها في مصاف الدول الآمنة في ديمقراطيتها واستقرارها السياسي ، فالحكم للشعب ، ولا وصاية لأحد على قرار الشعب واختياراته ، والجيش مكانه في ثكناته أو على الحدود لحماية التراب الوطني . لم يكتف أردوغان بذلك ، بل قرر معاقبة الانقلابيين بأثر رجعي ، فدعا القضاء التركي إلى فتح ملفات الانقلابات العسكرية السابقة ، معتبرا أنها خيانة للوطن كله وليس لحزب أو رئيس ، وبالفعل عقدت محاكمات لكنعان افرين وضباط انقلاب 1980 الدموي ، وانتهت بالحكم بإدانتهم وسجن قائد الانقلاب 25 عاما ، رغم أنهم كانوا قد طعنوا في السن ، لكنها كان خطوة رمزية تهدف لتعزيز الرفض الشعبي لفكرة الانقلابات العسكرية وإدانتها أخلاقيا وقضائيا ، كما تجري محاكمة جنرالات انقلاب 1980 حاليا . * "الأردوغانية" .. هل تلهم النضال السياسي في العالم العربي ؟ (1/13) * "الأردوغانية".. مصطفى كمال أتاتورك وأزمة الهوية (2/13) * "الأردوغانية"..كيف بدأ مسار إصلاح أزمة الهوية في تركيا ؟(3/13) * "الأردوغانية"..العسكر يربكون الدولة من جديد(4/13) * "الأردوغانية" .. كيف جنى العسكر على الدولة التركية (5/13) * "الأردوغانية" .. كيف أنهى العسكر أول حزب إسلامي (6/13) * "الأردوغانية" .. جيل جديد يحدث ثورة سياسية في تركيا ؟ (7/13) * "الأردوغانية" .. كيف تعزز نجاحك السياسي وكيف تحميه ؟ (8/13) * "الأردوغانية"..كيف روض الجنرالات وأخضعهم لسلطة الشعب ؟(9/13) [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1