خلال مسيرة أردوغان السياسية ، والتي بدأها ككادر سياسي صغير في حزب "أربكان" ، ثم من خلال تحمله المسئولية المبكرة والمصغرة بفوزه في الانتخابات البلدية ، ورئاسته لبلدية اسطنبول ، أهم مدينة تركية على الإطلاق ، والتي أتاحت له وضع بصماته عليها مما حقق له شعبية مبكرة كبيرة ، ثم حكم سجنه بعد ذلك بسبب أبيات شعر وفرض العزل السياسي عليه عدة سنوات ، كل ذلك جعله عندما أسس حزب "العدالة والتنمية" يعرف جيدا الخريطة السياسية في تركيا بكل دقة ، ومصادر القوة والخطر فيها ، وكان أردوغان يدرك أن مصادر القوة والخطر على الديمقراطية والإصلاح في البلد يأتي من ثلاث جهات ، أولها الجنرالات الذين يقبضون على السلطة الحقيقية ويهددون السياسيين ويوظفون مؤسسة العدالة لإعادة هندسة الأحزاب وحل ما يشاءون وحبس ما يشاءون دون أن يظهروا في الصورة ، وكان العسكر هم مركز الثقل في "الدولة العميقة" ، كما كانوا قد نجحوا منذ الانقلاب الأول 1960 في تشكيل جماعات مصالح داعمة لهم في الجامعات ورجال الأعمال والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ، كما كانت لهم أذرع إعلامية قوية يستخدمونها في تحطيم أي سياسي أو التمهيد لأي انقلاب ، ثم يأتي الخطر من جانب فساد مؤسسة العدالة ، ونجاح العسكر في تحقيق اختراق واسع فيها وتوظيف آلاف من المدعين العموم والقضاة الذين يدينون لهم بالولاء الكامل ، كما كانت لهم سيطرة شبه تامة على المحكمة الدستورية العليا ، ثم الخطر الثالث يأتي من الحركات الدينية وخاصة حركة "الخدمة" وهي تنظيم سري غير معلن يتزعمه رجل الدين المعروف "فتح الله جولن" المقيم في الولاياتالمتحدة منذ حوالي عشرين عاما ، وهو تنظيم ضخم ويملك إمكانيات مالية هائلة واستثمارات داخل البلاد وخارجها ، كما أنه استثمر الفراغ السياسي في تركيا والاحتراب السياسي للتقرب من الجنرالات ومن القيادات الحزبية خاصة العلمانية ، مما أتاح له تحقيق اختراقات سهلة وسريعة في قطاعات شديدة الحساسية في الدولة ، فكان هناك آلاف القضاة الذين يتبعون الجماعة والمدعين العموم "النيابة" كما كان لهم اختراق خطير في الجيش من خلال ضباط يدينون لهم بالولاء الكامل ، وأيضا في جهاز الشرطة والاستخبارات فضلا عن نفوذهم الإعلامي ، كانت الجماعة تمثل دولة موازية بالفعل في تركيا . لم يكن بوسع أردوغان ، ولا غيره ، أن يواجه كل تلك الديناصورات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والقضائية دفعة واحدة ، فعمل على تحييد بعضهم ، وخاصة حركة الخدمة ، مؤخرا الصدام معها ، وبدأ في تفكيك النفوذ العسكري في الحياة المدنية وسيطرته على مفاصل الدولة تدريجيا ، من خلال إصلاحات دستورية ، وإجراءات ذكية للغاية وتكشف عن رجل دولة من الطراز الرفيع ، واعتبر أن تفكيك سطوة العسكر على الحياة المدنية سيتيح بسهولة تطهير مؤسسة القضاء التي تستند إلى قوة الجيش في نفوذها . بدأ الصدام مبكرا بين القائد المدني المنتخب القوي ، وبين الجنرالات الذين ورثوا الهيية التاريخية والحصانة والحق الدستوري في التدخل لحماية النظام العلماني منذ العام التالي مباشرة لتوليه رئاسة الوزراء ، وكما يقولون في لغة كرة القدم ، دخل الفريقان أجواء المباراة بدون فترة جس نبض ، فمن جانبه حرك الجنرالات رجالهم في الإعلام وفي الجامعات لتحريك موجة غضب وانتقادات ضد الوزارة الجديدة والحزب الوليد ، وكانت هناك تحريضات علنية ، ومانشتات صحف كبرى تقول : الضباط الشبان قلقون ، وهي نفس العبارة التي سبقت انقلاب 1960 ، من جانبه كان أردوغان وحزبه يقومون بعملية هيكلة هادئة وطويلة النفس ، بدأت بإعادة ترتيب مجلس الأمن القومي الذي كان يهيمن عليه الجيش ، فألغى اجتماعه الشهري وجعله كل شهرين ، وغير مكانه فلم يعد في رئاسة الأركان وإنما في رئاسة الوزراءا للتأكيد على مدنية الدولة ومؤسساتها ، كما جعل الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي من اختصاصات نائب رئيس الوزراء ، وليس عضوا بالمجلس العسكري ، وعدل في لائحة المجلس بما يقلص من النفوذ العسكري فيها ، كما رفع وصاية المجلس عن المجلس الأعلى للجامعات وعلى المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون ، كما ألغى محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية إلا في أيام الحرب وضيق جدا من اختصاص المحاكم العسكرية ، كما أخضع اقتصاديات الجيش للمراجعة المدنية من خلال محكمة حسابات خاصة مفوضة من البرلمان ، على أن تبقى قراراتها سرية وغير معلنة للرأي العالم . * "الأردوغانية" .. هل تلهم النضال السياسي في العالم العربي ؟ (1/13) * "الأردوغانية".. مصطفى كمال أتاتورك وأزمة الهوية (2/13) * "الأردوغانية"..كيف بدأ مسار إصلاح أزمة الهوية في تركيا ؟(3/13) * "الأردوغانية"..العسكر يربكون الدولة من جديد(4/13) * "الأردوغانية" .. كيف جنى العسكر على الدولة التركية (5/13) * "الأردوغانية" .. كيف أنهى العسكر أول حزب إسلامي (6/13) * "الأردوغانية" .. جيل جديد يحدث ثورة سياسية في تركيا ؟ (7/13) * "الأردوغانية" .. كيف تعزز نجاحك السياسي وكيف تحميه ؟ (8/13) [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1