قال صامويل تادرس الباحث المصري وكبير الباحثين بمركز الحرية الدينية في معهد هدسون في واشنطن ليس سرًا أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تمر بأزمة عميقة، وربما يشكل هذا مفاجأة للغالبية العظمى من المسلمين في مصر الذين يجهلون تمامًا كل أمر يخص شركائهم في الوطن، لكن تلك قضية أخرى. وأضاف في مقال له عبر بوابة المنصة : لنبدأ من الحدث، حيث شكّل مقتل الأنبا إبيفانيوس، رئيس دير الأنبا مقار، بداخل ديره بتلك الطريقة البشعة صدمة للكثيرين، رغم أنها ليست الحادثة الأولى التي يُقتل فيها أسقف قبطي ، والتي سبقها عدة حوادث منها مقتل الأنبا ثاؤفيليس مطران القدس والشرقية والقناة بالرصاص في مزارع دير الأنبا أنطونيوس بوش ببني سويف في 1945، ثم في 1951 قُتل الأنبا مرقس أول أسقف مصري لجنوب أفريقيا بالرصاص في سيارته الخاصة، بعد خروجه من دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، وغيره. وأشار إلي أن واقعة قتل الأنبا إبيفانيوس ما زالت رهن التحقيق، لكن وردود الفعل عليها تكشف عن الأزمة الضاربة داخل الكنيسة القبطية، ومن هذا المنطلق وجب الحديث عن الصراعات الفكرية داخل الكنيسة ومدلولاتها. وتابع في حديثه : منذ تأسيسها على يد القديس مرقص الإنجيلي، لعبت كنيسة الإسكندرية دورًا تاريخيًا مهمًا في تكوين الجماعة المسيحية. ففي مصر، ولدت الرهبنة على يد القديس الأنبا أنطونيوس، والأهم أن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية كانت منارة المسيحية في العالم كله. وأوضح أن الخلافات اللاهوتية أدت إلى انقسام دائم في الكنيسة في مجمع خلقدونية، وإلي انفصال كنيسة الإسكندرية عن بقية مراكز الفكر المسيحي. وتابع قائلا : مع بداية القرن التاسع عشر، كانت الكنيسة القبطية في أزمة، فالكهنة صاروا أُميين، يرثون الوظيفة من آبائهم، فاختل توازن الكنيسة وأصبحت عاجزة عن التعامل مع هجمة المبشرين الغربيين وخاصة البروتستانت. وأشار إلي أن أول من انتبه إلى الأزمة كان البطريرك "كيرلس الرابع" في منتصف القرن التاسع عشر، والذي عمل البابا على إصلاح وإحياء الكنيسة من خلال مشروعه لتعليم الشعب والكهنة، إلى جانب الإصلاح الإداري، لكن المشروع مات مع وفاة الرجل. واستطرد تادرس في حديثه : طوال العقود اللاحقة تركز الصراع داخل الكنيسة بين معسكرين؛ معسكر الإصلاحيين المتأثرين بالأفكار البروتستانتية، مقابل رجال الدين المحافظين. ودارت رُحى الصراع حول المجلس المِللي ودوره، حيث أدت هذه الصراعات إلى عزل البابا كيرلس الخامس لمدة ستة أشهر على أيدي الباشاوات بمعاونة من الدولة. وفي الأربعينيات وُلد جيل جديد من مدارس الأحد نجح في تحويلها إلى حركة جارفة، وذلك مع انضمام الشباب المتعلم لها، فكانت تُمثل اتجاهًا إحيائيًا معارضًا لكل من الأساقفة المحافظين، و"الباشاوات" ذوي العقلية الإصلاحية المتأثرين بالبروتستانتية. بينما كان كان الصراع بين مدرستي الجيزة و كنيسة الأنبا أنطونيوس شبرا في الخمسينيات والستينيات قائما على رؤيتين، إحداهما ركزت على العمل المجتمعي، والأخرى ركزت على النهضة الروحية. لكن في نهاية المطاف، أصبح الصراع الأكثر شراسة بين نظير جيد (البابا شنودة) ويوسف إسكندر (الأب متى المسكين). وأشار إلي أن البابا شنودة كان تلميذًا للأب متّى، تتلمذ وترهبن على يديه، ثم ترك مجموعته في أواخر الخمسينات. وبدأ الخلاف شخصيًا لكنه سرعان ما اتخذ أسسًا لاهوتية ، من جهة، كانت رؤية الأب متّى، هي رفض مشاركة الكنيسة في العمل المجتمعي وشؤون الدولة، حيث مهمة الكنيسة فقط هي قيادة المخطئين إلى المسيح ، بالإضافة إلي أن كتاباته التي عمل فيها على إعادة اكتشاف الآباء اتخذت تحولًا حادًا عن أسس تدريس المسيحية الأرثوذوكسية المعاصرة. كما أن بعض الذنوب "الهرطقات" المنسوبة إليه، كانت بخصوص كتاباته عن التأله ورفض الخطيئة الأصلية، ونقد الكتاب المقدس من خلال رفضه لحرفية النص، ومئات الرؤى الأخرى التي وجدها البابا شنودة مُشينة. فيما رفض البابا شنودة التأله، وشدد على نظريات استبدال الخلاص، حيث اتخذ جزءا من الصدام شكلًا سياسيًا، ولعب الأب متّى دورًا في الصراع بين البابا شنودة والرئيس السادات. وأكد في حديثه أنه بعد خروج البابا شنودة من الدير، كان حرًا في تشكيل الكنيسة على صورته، حيث قُتل الأسقف صموئيل مع السادات، وتم تحييد الأسقف جريجوريوس. وأوضح تادرس : ومع مرور الوقت، رَسَّم عشرات الأساقفة وآلاف القساوسة من تياره. بينما بقي الأب متّى الذي تم حظر كتبه واضطهاد أتباعه في الدير حيث تجمع التلاميذ حوله. وتابع قائلا : في أوائل عام 2000 كرّس البابا شنودة وعظاته لمهاجمة الأب متّى، وكان رَجُله في حصار تيار الأب متّى هو الأنبا بيشوي، مطران دمياط وسكرتير المجمع المقدس. وعقب وفاة الأب متّى عام 2006، تخيَّل البابا شنودة واتباعه أن أفكاره ماتت معه، لكن المفاجأة كانت خروج جيل جديد من العدم متأثرين بتلك الأفكار. كما أن الأقباط الشباب بدأوا في الوصول إلى الآباء وإصدار أحكامهم الخاصة بهم، والتي غالبًا ما كانت معارضة لوجهة نظر البابا شنودة. وأكد أنه بعد مجيء البابا تواضروس برؤية انفتاحية جديدة للكنيسة غيرت الوضع بشكل كبير عن طريق فتح الأبواب أمام أتباع الأب متّى. ورَسّم تواضروس الأسقف إبيفانيوس وآخرين غيره، وعيّن أتباع الأب متّى في مناصب للتدريس بالكلية الإكليريكية. وأشار إلي أن وجهات نظر البابا تواضروس حول المسكونية، والرغبة في إلغاء إعادة معمودية الكاثوليك، وتغيير تواريخ عيد الميلاد وعيد الفصح، وغيرها من الخطوات أغضبت الحرس القديم. وأضح أن الحرس القديم (المحافظين)، جن جنونه ، و كان هذا بالنسبة لهم بدعة خالصة، فأطلقوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي لجان مثل حماة الإيمان لمهاجمة خصومهم . وتابع : أن هذه المجموعات مدعومة مباشرة من قبل أسقفية الشباب (الأنبا موسى)، وتستخدم للتصدي لما تعتبره بدعة بين رجال الدين وبين الجيل الجديد من الطلاب الذين يظهرون في الكنيسة . واستطرد تادرس في حديثه أنه بمقتل الأنبا إبيفانيوس فقدت جبهة التنوير المدافع الأهم عنها داخل المجمع المقدس الذي قام بحمايتها من هجمات أتباع البابا شنودة ، لافتا إلي أنه ربما في عام أو عامين سيرُسَّم أسقف جديد من أبناء الدير لكنه لن يكون بنفس القوة. وأوضح أن الأنبا إبيفانيوس جمع بين العلم الغزير وقوة الحجة مع التواضع الجم الذي جعله محبوبًا جدًا. وتنبأ الباحث القبطي أنه رغم قوة الضربة وعِظَم الخسارة؛ ليس لدي شك أن المستقبل لتيار الأب متي المسكين ، ومع قراءة أعداد أكثر من الشباب القبطي لكتابة الآباء، ومع انفتاح فرص تعليمية في الخارج أمام الأكاديميين منهم، ونشر كتابات الآباء باللغة العربية؛ سوف يكتشف الكثيرون أي تيار أقرب إلى آباء الكنيسة وفكرهم.