لا يمل المسؤولون في مصر من التأكيد علي ان الانتخابات البرلمانية ستكون في هذه المرة نزيهة، وهو امر وان كان يمثل اعترافا ضمنيا بأن الانتخابات في المرات السابقة لم تكن كذلك، الا انه لا يشفي الغليل، ولا يعد ضمانة لعدم انحياز الإدارة لمرشحي الحزب الحاكم، ذلك لان من يتابع تصريحات المسؤولين في كل انتخابات سيجدها لا تتغير، ومع هذا وقع التزوير، وحدث الانحياز! وغني عن البيان ان الشعب المصري اعتاد علي هذه النوعية من التصريحات، وهو يؤمن بأنه ليست موجهة له، ولكنها دعاية للسلطة في المحافل الدولية، ولدي الغرب، والولايات المتحدة علي وجه الخصوص، ولان المواطن ليس معنيا بها فهو لا يستمع إليها، ولا يعلق عليها. وفي الواقع فان وعود المسؤولين في الجملة يتم النظر إليها علي انها ' كلام جرايد'، وكلام الصحف ليس له وزن في دول العالم الثالث، لأنها، ونتيجة تأميم الأنظمة للصحافة، فان كلامها لا مصداقية له! في المعلن لا توجد شواهد تؤكد ان السلطة عازمة علي التدخل، فلم نشهد- حتي كتابة هذه السطور- تدخلا من قبل جهة الإدارة يؤكد انها منحازة لمرشحي حزب الحكومة، كما لم نعلم انها حدت من حركة أي مرشح، لدرجة ان مرشحي جماعة الإخوان المسلمين يتحركون بحرية غير معهودة، ويؤكدون في دعايتهم علي الانتماء لجماعة هي من الناحية القانونية محظورة، والجهر بالانتماء لها مجرم قانونا، ويتم تقديم عناصرها للمحاكم العسكرية وغير العسكرية، وتصدر الأحكام القضائية بإدانتهم! هناك من يقول ان هناك صفقة بين الحكومة والجماعة، وقد يكون هذا صحيحا، واذا ثبت صحة هذه الصفقة فإنها في تقديري ليست بين الجماعة والنظام، ولكن بين بعض افراد من قيادات الحزب الحاكم، لاسيما أولئك الذين يخوضون الانتخابات البرلمانية، وهي تهدف الي ضمان ترك الاخوان دوائرهم بدون مرشحين منهم، وهذا ما نلاحظه من انه لم يحدث- ولو علي سبيل المصادفة- ان ترشح إخواني في دائرة مسؤول من هؤلاء! ومهما يكن الأمر، فان جهة الإدارة لم تتدخل أيضا ضد أي مرشح، الأمر الذي يطمئن القلوب الملتاعة الي ان الانتخابات ستكون نزيهة، وان الاحتكام سيكون للشعب. لكن لان من ' لسعته الشوربة فانه ينفخ في الزبادي'، فلا يمكن لواحد مثلي ان يطمئن الي هذا الهدوء من قبل السلطة الحاكمة، الا في اطار انه الهدوء الذي يسبق العاصفة، ولقد كانت الانتخابات في البرلمان الماضي في المرحلة الانتخابية الأولي نزيهة، فتساقط مرشحو الحزب الحاكم كما يتساقط ورق الشجر اليابس، فلما جاء موعد المرحلة الثانية، كان التدخل نسبيا، وفي الثالثة شاهدنا تدخلا من الذي يتغني به الركبان، حتي ظننا ان البلاد في حالة حرب بين وزارة الداخلية من ناحية، والمرشحين المعارضين من ناحية اخري، وفي الحروب- كما هو معلوم- فان كل الأسلحة تكون مباحة! مع الوضع في الحسبان انها كانت حرباً من قبل جانب واحد، هو الذي يملك السلاح، اما الطرف الآخر فقد عومل معاملة غرائب الإبل، ومع هذا فان النسبة التي حصل عليها الحزب الحاكم لم تتجاوز ال 36 في المائة، مع انه حزب الأغلبية الكاسحة كما كانوا يرددون، ولا يزالون! اذا كنت استبعد ان تظل أجهزة الأمن علي هذا الحياد ( الظاهر) حتي نهاية المعركة، فانني أعتقد ان تدخل السلطة قد بدأ، لكن بشكل غير مرئي، او في امور تمثل تدخلا فاضحا، لكن لاننا اعتدنا عليها فلم نقف علي انها كذلك، فقد جري حجز رمزي الهلال والجمل، أي الأول والثاني، لمرشحي الحزب الحاكم، وبشكل فج، مع ان الرموز تمنح حسب أسبقية التقديم، ولا أستطيع ان انفي ان مرشحي هذا الحزب في طول الوطن وعرضه كانوا اول من تقدموا بأوراق ترشحيهم، لكن قبل فتح باب الترشيح، الامر الذي يعني، قانونا، ان ترشيحهم باطل، وإذا كان قد تم في بعض المحافظات استدعاء هؤلاء المرشحين لتقديم أوراقهم ليلة الانتخابات، حيث فتحت مديريات الأمن أبوابها خصيصا لهم، فانه في مديريات أخري تم دخولهم من الأبواب الخلفية في صباح يوم الترشيح لتقديم اوراق ترشيحهم قبل الموعد، وعندما فرغوا من ذلك وبلغت الساعة التاسعة صباحا وهو الوقت المضروب لفتح باب الترشيح، تم فتح الأبواب أمام أبناء الجارية! وهذا التصرف وان كان الحزب الحاكم قد درج عليه، الا انه ليس له مبرر في ظل التأكيد علي ان الانتخابات ستكون نزيهة هذه المرة، وفي تقديري ان الحزب الحاكم لن يفقد أغلبيته لمجرد ان مرشحيه لم يحصلوا في عموم القطر المصري علي رمزي الهلال والجمل، والذي كان الحصول عليهما له مبرر في الماضي عندما كان يتم ' تسويد الأصوات'، والتصويت نيابة عن المرشحين، فالتصويت للأول والثاني يجعل من عملية التزوير سهلة وميسورة، ولا يربك المزورين، ومعلوم انه في هذا الزمن كانت الأصوات التي يحصل عليها أي مرشح للحزب الحاكم تصل الي الأربعين الف صوت، هبطت في ظل الإشراف القضائي في الانتخابات السابقة الي ثلاثة الاف صوت في المتوسط! وعلي ذكر الإشراف القضائي فان إصرار الحكومة علي عدم تدارك الأخطاء التي وقعت في الانتخابات الماضية، امر لا يجعلنا نستقبل تصريحات النزاهة باطمئنان. فمعلوم ان نفوذ القاضي لا يتجاوز جدران اللجنة الانتخابية، أي الحجرة التي يجلس فيها، وقد تدخلت أجهزة الأمن في كثير من الدوائر وحالت دون وصول الناخبين الي حيث يجلس القاضي، وقد رأي القضاة هذا التدخل الوقح بأنفسهم فلم يملكوا له صدا ولا ردا، الامر الذي جعلهم يطالبون بان تمتد سلطاتهم الي خارج اللجان، لكن السيد رئيس اللجنة المشرفة علي الانتخابات، وهو بشحمه ولحمه، وزير العدل المفدي في حكومة الحزب الحاكم، رفض هذا الطلب، وهو رفض لا يجعلني اسلم بتأكيدات السادة المسؤولين بأن الانتخابات الحالية ستكون نزيهة، ولو اقسموا علي الماء فتجمد، ولو شاهدناهم يمشون في الماء، ويطيرون في الهواء! ان جهة الإدارة صدعت رؤوسنا بالتأكيد علي ان الانتخابات ستكون نزيهة ( بأمارة) انها تجري تحت الإشراف القضائي الكامل، مع ان الإشراف القضائي لا يمتد الي كشوف الناخبين التي تعدها وزارة الداخلية، والتي تزدحم بالموتي، وبالأسماء المغلوطة، فضلا عن ان الحكومة احتالت علي حكم المحكمة الدستورية العليا الذي قال بالإشراف القضائي علي العملية الانتخابية، ففضلا عن ان نفوذ القاضي لا يتجاوز الحجرة التي يجلس فيها، فانه ليس كل من يجلس في الحجرات قضاة، فقد حولت الحكومة عضو النيابة الإدارية الي قاي، وهي جهة تتبع السلطة التنفيذية، وليس المجلس الاعلي للقضاء، كما انها حولت هيئة قضايا الدولة أي محاميي الحكومة الي قضاة لهم حق الإشراف علي العملية الانتخابية، ومعلوم ان المواطن عندما يقاضي جهة من جهات الحكومة فان من يترافع عنها امام المحاكم هم هؤلاء المحامون، الذين يدافعون عنها في مواجهة المواطنين في المحاكم، ثم يتم تقديمهم علي انهم محايدون في الانتخابات ويقفون مع المواطن في مواجهة السلطة في اللجان الانتخابية! في دائرة الزيتون التي يخوض الانتخابات فيها الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، تبين ان كل من اشرفوا علي الانتخابات فيها هم من هؤلاء القوم، وقد صدر حكم محكمة النقض يؤكد بطلانها لهذا السبب، لكن لا حياة لمن تنادي، فأحكام القضاء في عالمنا العربي تصدر للاسترشاد، فان صادفت هوي لدي السلطة انزلتها منزلتها، وان لم تأت علي هواها- والهوي غلاب كما تقول الست- تجاهلتها، واعتبرتها لم تصدر من الأساس! وفي هذه الانتخابات لم يجر الأخذ بمطلب القضاة عبر جمعيتهم العمومية في تعريف القاضي بأنه هو الذي يفصل بين الخصوم، ويقضي بين الناس، وهو الذي لا يتبع السلطة التنفيذية، لكن لا مجيب! واذا كنا نعلم ان ' التسويد' قد انتهي زمانه، فان خطورة الاستعانة بغير القضاة تكمن في التساهل في ما يعرف ' بالتعارف' ولاسيما في لجان النساء، فيمكن لخمسين امرأة ان تصوت للجنة كاملة يتجاوز عدد الناخبين فيها أربعة آلاف صوت، ومعلوم ان متوسط أصوات من فاز بالمقعد في الانتخابات الماضية لا يتجاوز هذا الرقم.. في دائرة مدينة نصر حصلت مرشحة الحزب الحاكم علي 2100 صوت، ونجحت! أما عن الكشوف الانتخابية فحدث ولا حرج، ففي دوائر من تلك التي يترشح فيها علية القوم يتم القيد الجماعي لموظفي الدولة ولغيرهم ممن يتبعون هؤلاء المرشحين، وقد أبطلت محاكم مجلس الدولة هذا القيد، ولا تزال تنظر عشرات الدعاوي بصدده! هذا فضلا عن ان أجهزة الإدارة حريصة علي عدم تنقية كشوف الناخبين، وما ينبئك مثل خبير! فقد خضت انتخابات مجلس الشوري التكميلية في ديسمبر الماضي، وقد فوجعت عندما اطلعت علي جانب من هذه الكشوف وهو الخاص بعائلتي، فقد شاهدت أسماء المئات من الموتي مشرفة فيه، وبعضهم من أقربائي الذين وعيت علي ظهر الدنيا ولم أشاهدهم، كما راعني توقف القيد التلقائي منذ ان تم قيدي في سنة ،1984 والمعني ان هناك الالاف ممن لم تشملهم كشوف الناخبين، هذا ناهيك عن عملية تدمير كشوف الناخبين من خلال إفساد الأسماء، ف 'علي' اسمه عبد الرحمن، ومحمود اسمه خالد، وهكذا، وفي لجنة واحدة بلغ عدد الأسماء الخاطئة 800 اسم، من جملة 1200 مرشح، وقيل ان الافساد تم بفعل فاعل، ولن استطرد في هذا الجانب. ولان وزير الداخلية عقب هذه الانتخابات فتح الباب لتنقية الجداول وقيد ناخبين جدداً في كل دوائر الجمهورية، فقد عكف الأهل علي ضبط الكشوف وحذف الموتي، وإضافة الأحياء، وتصحيح الأخطاء، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي الانتخابات الرئاسية ظهرت الكشوف الفاسدة مرة اخري، وقد قيل لي انها من لزوم السرعة، وطمأنوني بتصريح من وزن تصريحات الحكومة عن النزاهة، فقد قالوا في انتخابات مجلس الشعب فان الوضع سيكون مختلفا، وسوف تظهر حتما الكشوف الجديدة، ومنذ ايام التقيت بمسؤول عن الانتخابات بقسم الشرطة وسألته عن الكشوف الجديدة فقال: انسي، فلا اثر لها، والموجود هي ذاتها الكشوف القديمة! ولا بأس فوزارة الداخلية هي التي تعد هذه الكشوف، مع انهم يقولون ان القضاة هم الذين يشرفون علي العملية الانتخابية، ومع انهم يصرحون بان هذه الانتخابات ستكون نزيهة. أرجو من عموم القراء ان يبلغوا تحياتي الشخصية للسيدة نزيهة. ------- صحيفة الراية القطرية في 9 -11 -2005