بعد الرئيس مبارك .. تتوالى تصريحات وتأكيدات قادة الحزب الوطني الحاكم بأن انتخابات مجلس الشعب نهاية هذا الشهر ستكون نزيهة وشفافة, من صفوت الشريف وزكريا عزمي وجمال مبارك وعلي الدين هلال إلى أحمد نظيف ووزرائه وصولا إلى أمناء الحزب في المحافظات والمدن وحتى القرى, هكذا صار حديث الشفافية والنزاهة شعار الحزب الحاكم في هذه الانتخابات, ربما لينفي عن نفسه الاتهامات المسبقة بأنه سيمارس التزوير على أصوله وبأقصى قدر من الفجاجة للاستحواذ على العدد الأكبر من مقاعد المجلس ال 508 بعد إضافة مقاعد كوتة المرأة المستحدثة بهدف تمكين المرأة . لكن من الجيد أن يطلع علينا كبار القادة والأركان في الحزب الحاكم صباحا ومساء وهم يرددون عبارات النزاهة والشفافية بهدف طمأنة الداخل والخارج بأنها ستكون انتخابات جيدة ومحترمة وكأنهم يريدون القول أنه ليس هناك أي داع لأي مطالب بالرقابة الدولية عليها فلن نخذل المجتمع الدولي هذه المرة. لكن هل يعني الإلحاح في حديث النزاهة انه بمثابة الاعتراف الضمني من جانبهم بأن كل ما سبق من انتخابات كان يفتقد للحرية والشفافية, وأن مصر اليوم بصدد عهد جديد بانتخابات جديدة لم تألفها خلال عهود ما بعد ثورة يوليو تدشن بها لمرحلة جديدة في الإصلاح والتغيير؟, وهل في هذا الإطار يمكن وضع تأكيد الدكتور زكريا عزمي في مؤتمر الحزب الوطني في القاهرة بأن الانتخابات ستكون شفافة ونزيهة وأن الحزب والحكومة يعملان على تحقيق ذلك, وأنه لابد من وضع مصر ومصلحتها فوق رؤوسنا جميعا ونصب أعيننا, حسب قوله؟. لا نريد أن نسبق الأحداث ونفترض أن الحزب بمساعدة أجهزة الحكومة سيمارس التزوير على الطريقة التي حدثت بها في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى قبل أشهر قليلة حسب اتهام البعض له, خصوصا وأن عقبة رئاسة رجال القضاء للجان الفرعية قد أزيلت بالتعديلات التي أدخلت على الدستور وقوانين مباشرة وتنظيم الحياة السياسية حيث قصرت الإشراف القضائي على اللجان العامة فقط. نريد أن نكون من أصحاب النوايا الحسنة هذه المرة أيضا ونتجاوب مع تأكيدات ووعود أركان النظام والحزب والحكومة بنزاهة الانتخابات ففي ذلك مصلحة أكيدة لمصر وللحياة السياسية ولمشروع الإصلاح ولصورة النظام في الداخل والخارج. من المهم جدا للحزب الوطني أنه بعد هذا الماراثون الطويل والمجهد والمعقد لاختيار مرشحيه أو انتقائهم من بين ألوف المتقدمين فيما يعرف بالمجمعات الانتخابية لإفراز أفضل وأنظف العناصر لتمثيله وعلاج سوءات وتشوهات الاختيارات في الدورات السابقة من المهم ترك هؤلاء المختارين بعناية, أصحاب الشعبية والسمعة الحسنة أن يثبتوا في ميدان الانتخاب أنهم جديرون فعلا بتمثيل الحزب وأنهم لايحتاجون للتزوير وأنهم قادرون على الفوز بأنفسهم وتحقيق الأغلبية لحزبهم وأن اختيارهم من الأساس كان سليما . أتصور أن الأستاذ أحمد عز أمين التنظيم في الحزب الحاكم ربما يكون من أكثر قادة هذا الحزب طلبا للنزاهة لاختبار نتائج فكرة المجمعات التي أفرزت العناصر المرشحة لأنه كما تابعنا بذل مجهودا كبيرا فيها. أهمية أن يفي النظام بوعوده بنزاهة الانتخابات تتقدم عندي على مسألة الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات, فرغم أن الإشراف القضائي على اللجان الفرعية خصوصا كان يوفر ضمانة مهمة لخروج الانتخابات بقدر معقول من النزاهة, ورغم تفهمي لمن يتباكون على إلغاء هذا الإشراف وإسناده لموظفي الحكومة إلا أن تقديري أن وجود القضاء في المشهد الانتخابي بالكامل في مصر لايعني أن الانتخابات ستكون نزيهة تماما وأنها لن تتعرض لشائبة واحدة, وهذا ليس طعنا في القضاء ورجاله ولا تقليلا من دورهم باعتبارهم سلطة مستقلة محايدة إنما لأن بيئة الانتخابات في مصر وعقلية إدارتها من جانب الأحزاب والمرشحين والجمهور المتعصب لهم لاتعتد كثيرا بفكرة النزاهة بمعنى أن سعي هؤلاء الأساسي هو تحقيق الفوز بأي ثمن, ولهذا ورغم وجود القضاء فان الحزب الحاكم والحكومة كانا قادران على سلب هذا الإشراف جزءا من أهميته بحيث لا يمكن اعتباره علامة على أن انتخاباتنا تتسم بالمعايير الدولية المتعارف عليها للانتخابات الحرة والديمقراطية . كما كان بعض المرشحين في بعض الدوائر يفعلون الأمر نفسه دون توجيه من سلطات عليا. فمثلا يجلس القاضي في اللجنة الفرعية دون أن يحدث تدخل لصالح مرشح معين إنما لا يجد القاضي من يدخل اللجنة ليدلي بصوته لان جهاز الشرطة المفترض أن يحافظ على امن اللجان والناخبين دون التدخل في العملية الانتخابية يقوم بمنع الناخبين من الوصول إلى اللجان في مناطق بعينها من الدوائر لأنهم سيصوتون لمرشح معين غير مرغوب فيه, وليس شرطا أن يكون هذا المرشح من الإخوان أو المعارضة إنما قد يكون من الحزب الحاكم لكنه خرج على ما يسمى بالالتزام الحزبي ورشح نفسه في مواجهة زميله بالحزب. لعل مشهد" السلم " في انتخابات 2005 الذي صعد عليه الناخبون لدخول المدرسة من أسوارها الخلفية بعد أن أغلقت الشرطة بابها الرئيسي وفرقتهم بالقوة كان بالغ الدلالة على ما نقوله, وخذ عندك في لعبة الكرّ والفرّ الكثير من الحيل التي ابتكرها الناخبون في عدد من الدوائر التي أغلقت بعض لجانها في وجوه الناخبين من لون معين لحرمان مرشحين لايراد فوزهم حتى لا يصوّتوا له . وغير الشرطة وسلطتها وقوتها الجبارة, هناك طوابير البلطجية والفتوات المستأجرين من بعض المرشحين لممارسة الإرهاب بوجه الناخبين لجعلهم يكرهون اليوم الذي تُجرى فيه الانتخابات ويلوذون ببيوتهم ولا يفكرون في ممارسة هذا الحق السياسي مرة أخرى. أما الوسائل الناعمة لسلب الانتخابات من نزاهتها فتشمل المال السياسي والرشاوى العينية في صورة هدايا ومساعدات وخدمات وتعيينات وحل مشاكل المواطنين مع أجهزة الدولة والإغراق في الوعود وخلافه خلال فترة الدعاية, وهذا كله لايقدر عليه إلا الحزب الحاكم ومرشحوه , ومن يتابع الصفحات التي خصصتها الصحف المصرية لمتابعة الانتخابات سيكتشف سخاء الوعود التي يقدمها مرشحو الوطني لناخبي دوائرهم خصوصا الوزراء وكبار القيادات ومن يذهب للدوائر على ارض الواقع سيجد أن كل مشاكل المواطنين التي استعصت على الحل منذ سنوات قد تم حلها أوهى في طريق الحل لكن بالكلام فقط, انه موسم الانتهازية السياسية من أجل الأصوات. الحقيقة أن مشكلة نزاهة الانتخابات في مصر مركبة ومعقدة فلا هي مسؤولية الدولة فقط ولاهي مسؤولية الأحزاب فقط- تحديدا الحزب الحاكم - ولاهي مسؤولية الحكومة فقط ولا هي مسؤولية الجمهور الناخب, هى مسؤولية شاملة يتحملها المجتمع كله نظاما وحكومة وحزبا حاكما و معارضة ومنظمات مجتمع مدني وجمهور.. فهل هذا التركيبة المجتمعية تؤمن بالفعل أن نزاهة ونظافة الانتخابات بمثابة أمر مقدس لاينبغي المساس به أو انتهاكه تحت أي ظرف ولأي سبب؟ . قد يحدث ويكون حديث رأس الدولة جديّا بشأن النزاهة لكن القيادات التالية له لاتلتزم بوضع وعود الرئيس موضع التنفيذ كما شرحنا في مقال سابق, وقد تلتزم تلك القيادات لكن الأصغر منها في المحافظات تخشى على مقاعدها فتسعى للتدخل في العملية الانتخابية لإنجاح مرشحي الحزب الحاكم لاعتقادها أن في ذلك نوع من الولاء وضمان للبقاء, وقد تلتزم كل القيادات وكذلك أجهزة الدولة بالحياد فيحدث أن يقوم المرشحون أنفسهم من الوطني ومنافسوهم من المعارضين والمستقلين بالتزوير وبشراء الأصوات والذمم واستخدام وسائل الإرهاب المعروفة لانتزاع المقعد بأي ثمن. عندما أكتب هذا الكلام فإنه من واقع تابعته ووقفت على أساليبه وهو يحصل في كل انتخابات ولن يتوقف إلا عندما يكون النظام جادا وصادقا في وعوده وعهوده بنزاهة الانتخابات ويستخدم كل سلطاته وسطوته وقوته في فرض واجب النزاهة فرضا على كل الحلقات التي تليه, لن يتوقف التزوير إلا عندما يشعر المواطن أن صوته مؤثر وسيكون له قيمة في تغيير واقعه. انظر للجان الانتخابات في البلدان الديمقراطية لن تجد قوات شرطة بكثافة تلك الموجودة في انتخاباتنا ولن تجد داخل اللجنة عدد كبير من مندوبي المرشحين , ستجد موظف واحد يرأس اللجنة و عملية التصويت بداخلها تتم بهدوء وبحياد تام دون أن يفكر أحد في رشوة رئيس اللجنة أو طرد مندوبي المرشحين المنافسين حتى يخلو له الجو ويسود البطاقات لمن يرغب في إنجاحه . عندما اطمأن الناس في البلدان الديمقراطية إلى نظافة الانتخابات وحياد الحكومات والى أن أصواتهم قادرة على إسقاط حكومات والإتيان بأخرى فإنهم يتقاطرون يوم الانتخاب على اللجان وهم في غاية البهجة والسعادة والشياكة لأداء واجبهم السياسي وكأنهم في نزهة وليس في حرب ومعارك مسلحة كما يحدث في بعض الدوائر بمصر. ولماذا نذهب بعيدا وعندنا تجارب عربية انتخابية مدهشة في الكويت والبحرين والمغرب ولبنان والأردن وفلسطين وقطر" الانتخابات البلدية " حيث يتم التصويت في مناخ حر ونزيه ولا يحدث تدخل سواء من أجهزة الدولة أومن المرشحين ,هى تجارب ناشئة تستحق التوقف عندها والإشادة بها, ومصر ليست اقل من هذه الدول التي لم تعرف الانتخابات إلا حديثا , مصر لديها تجربة قديمة وعريقة في الانتخابات الجيدة والديمقراطية قبل أن تظهر كثير من بلدان أوروبا الحديثة على الخريطة الجغرافية والسياسية للعالم الحر والديمقراطي . تحتاج في مصر إلى أن يكون قول رجال النظام والحزب والحكومة عن نزاهة الانتخابات قول صادق وحقيقي وأمين مهما أفرزت الانتخابات من نتائج علينا تحملها, وتحتاج مصر إلى إيمان حقيقي وصادق من كافة أجهزة الدولة وهى المنوط بها تنفيذ العملية الانتخابية بالنزاهة والشفافية وبالتنافس الحر الشريف لمصلحة الوطن.