لن أتناول فى هذه المقالة الاستعراض التقليدى المعهود للاختلاف المشهور فى رؤية الهلال فهذا أمر شائع، وتلك مسألة قتلت بحثًا ودراسة، لكن أردت أن أقف أمام بعض النقاط المهمة التى غابت عن البعض عند النظر فى هذه القضية والتى من أهمها: • مبالغة الكثير من العلماء وطلاب العلم فى إبراز خطورة سلبية الاختلاف بين المسلمين فى تحديد الأهلة وأوائل الشهور العربية مبالغة جعلت من مسألة الرؤية الشرعية للهلال (قضية أساسية) من قضايا الوحدة والاتحاد بين المسلمين وكأن المسلمين اتفقوا فى كل شىء فلم يبق إلا وحدة الهلال، والصحيح شرعًا وتاريخًا أن مفهوم الوحدة لدى الفكر الإسلامى هو أعظم من ارتباطه برؤية الهلال فهو يتعلق بوحدة العقيدة والشريعة والغاية والمصير، وقد كان المسلمون أمة واحدة فى الأزمان الراشدة والقرون الفاضلة، وكانوا يتعايشون مع هذه الأنواع من الاختلافات بروح الرحمة والسعة والألفة، وكانوا يختلفون فى تحديد رؤية الهلال فيصوم قوم فى بلد ويفطر آخرون فى مصر آخر، ولم نر من ينتقد هذا الاختلاف وينادى بالوحدة والاتحاد بدل الفرقة والاختلاف بل اعتبروه من جنس الاختلافات التى تسع الأمة حلاً وترحالاً، وأنا لا أجد انتقاصًا لفرحة العيد حينما مثلا أهنأ مسلمًا فى المغرب أو ماليزيا بالعيد فيقول نحن عيدنا غدًا بل اعتبره من جملة بسط الله لأيام الفرحة للمسلمين. • النقطة السابقة لا تجعلنا نغض الطرف عن هذا الاختلاف فى رؤية الهلال، والذى تحول مع الزمن ومن خلال استدعاء بعض المعارك الفكرية البائدة، والتى كانت كل مدرسة تحاول أن تفرض هيمنتها على الدول الأخرى من خلال (تسييس) الدين واختلافاته الفقهية، إلى أن نقول أن الاختلاف فى واقعنا المعاصر فى تحديد بدايات الأشهر العربية (لا يخلو) من بعد سياسى، ذلك أن الرأى الفقهى المتبادر الذى يستند إليه البعض هو القول (باختلاف المطالع) ومن ثم لكل بلد رؤيته.. غير أن الحقيقة هى أن الاختلاف الواقع الآن هو ليس بين) بلد وبلد آخر) يختلف عنه فى مطلع الهلال وإنما الاختلاف الواقع هو بين (دولة وأخرى)، فأصبح إذًا مناط الاختلاف هو (الحدود الدولية) وليست حدود (اختلاف المطالع)، بل ولا حدود المدن التى تعتبر أقاليم مستقلة فى زمن الصحابة رضى الله عنهم، ولذا لا ينبغى بحال أن يفسر هذا الاختلاف ويعزى إلى المسألة الفقهية المشهورة اختلاف المطالع، ومن ثم فالمسألة خرجت عن كونها اختلافًا فقهيًا إلى ما يشبه (السيطرة) الفكرية أو الدينية، ولا ننسى فى هذا السياق الصراع الضمنى بين بعض المدارس الفكرية فى أوطاننا العربية ومحاولة كل مدرسة أن تسيطر من خلال (شرعية اختلاف المطالع) إلى فرض اجتهادها على الأمة، وقد حدث هذا مع الدولة الإسلامية المتتابعة فى تاريخنا القريب حينما كانت تستخدم المذاهب الإسلامية بل وأحيانًا القراءات القرآنية فى فرض السيطرة الفكرية وحسم الصراع العلمى!! • الغريب فى الأمر أنه منذ عشرات السنين كان ينادى الكثير من المسلمين المحترقين بالفرقة ونارها والمتشوقين إلى الوحدة وثمارها إلى تفعيل دور مؤسسات الفتوى (المؤسسات الفقهية)، ولاقى هذا النداء صداه عند علماء تلك المجامع وصدرت قرارات متعددة تعالج هذه القضية بدقة متناهية جامعة بين الدليل الشرعى والتقدم العلمى فى مجال الحسابات الفلكية والرصد المجهرى، ومع ذلك لم تتبن دولة واحدة فى جامعة الدول العربية ولا فى منظمة المؤتمر الإسلامى أحد هذه القرارات التى تمثل آلية معتمدة للفصل فى هذه القضية القديمة الحديثة، ولعل من أوسط تلك القرارات ما صدر عن مجمع فقهاء الشريعة (الذى أتشرف بعضويته) إذا ثبتت الرؤية فى بلد وجب على المسلمين الالتزام بها، ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار، لكن يبدو أن الأمر بحاجة إلى (قرارات تنظيمية) يتفق عليها رؤساء الدول الإسلامية أو من يمثلهم من وزراء خارجية أو وزراء عدل أو شؤون إسلامية وأمثالهم لإحراز السبق فى التبنى السياسى القوى المستند إلى القرارات المجمعية السابقة لتنظيم توحيد دخول الشهر وخروجه بآلية تحققه على الواقع. • أكثر المتأثرين بهذا الاختلاف هم المسلمون فى المهجر حيث انقسمت بسبب ذلك بعض الجاليات أحزابًا، بل وفى دولة واحدة تجد من يصوم مع دولة ما والجالية الأخرى أو المركز الآخر يصوم مع بلد آخر، وهذا التأثر السلبى هنا لا يعود إلى طبيعة الاختلاف الذاتى للمسألة الفقهية المجردة وإنما يعود إلى أن وضعية المسلمين فى الغرب وضعية وافدة على كينونة الجسد الإسلامى الذى ظل طيلة التاريخ هو المسيطر على الأقليات غير المسلمة وكان يحكمهم بشريعته، وهو الحاكم وليس المحكوم عليه، وكانت الفتاوى آنذاك حرمة إقامة المسلم بين ظهرانى غير المسلمين، وكان للمسلمين دولة وخلافة يأوى إليها المسلمون ويعيشون تحت ظلها ويحتكمون إلى قوانينها، أما وقد تغير الشأن الآن ونتج عن هذا الوضع آثار سلبية فلا يمكن أن نحيلها أو ننسبها إلى طبيعة الاختلاف الذى كان موجودًا منذ زمن البعثة، ولكن يجب أن نسمى الأشياء بمسمياتها ونقول إن الخطأ فى الظروف التى أنشأت هذه المظاهر السلبية فى قضية الهلال.