أجد تكثيفاً إعلانياً في وسائل الإعلام للانتخابات الرئاسية. هذا جديد على ساحة الرئاسيات. إلحاح شديد ومتواصل على قنوات التلفزيون الرسمي، والقنوات الخاصة ضاغط على الناخبين بضرورة الذهاب للتصويت، وربط المشاركة في هذا الاستحقاق بأنها من أجل الدولة المصرية، وبناء الحاضر، والتطلع للمستقبل. هذه معاني سامية ونبيلة، لكن الوسيلة، وهي العملية الانتخابية التي دفعت لإنتاج هذه الرسالة الدعائية مثار جدل، وتآكل في درجة الاقتناع بها وبجدواها بسبب الطريقة التي رسمتها وأخرجتها بهذا الشكل. ليس هناك إعلانات تلفزيونية مباشرة من التي نتحدث عنها لأي من المرشحين، لكن هناك مقاطع فيديو من نوع آخر تتنوع وتتكرر ولا يتوقف بثها على مدار الساعة بإنجازات السيسي. بناء مصر بدأ منتصف 2014، وما سبق هذا التاريخ فلم يكن في مصر شيء يقف على قدميه، تلك خلاصة ما يُقال في هذه الفيديوهات، وفي كل منافذ الإعلام، وفي مختلف مجالات مخاطبة الجمهور والتواصل معه. لماذا إذاً الديون الخارجية والداخلية المتزايدة غير المسبوقة ؟، ولماذا لا يزال الناس يجأرون بالشكوى المرة من مصاعب الحياة وشظف العيش؟. نهضة غابات الأسمنت لا يُعتد بها إلا أن يتم النهوض بالإنسان أولاً، حريةً، ورغيفاً. هذا الجهد المحموم، والحث المتزايد على الهيئة الناخبة بواسطة الإعلانات، وفي تغطيات وسائل الإعلام، بجانب لا فتات الدعاية التي تغطي القاهرة والمحافظات هي مظاهر لم تحدث من قبل بهذه الكيفية، ولا حتى كانت بهذا التكثيف في انتخابات 2014 والتي كان بطلها السيسي ومرشحها المؤكد فوزه، وهو نفسه بطل 2018 والمؤكد فوزه أيضاً. التفسير المباشر لهذا الطوفان الدعائي في عملية أقرب للاستفتاء أنه يعكس حالة القلق بأن عدم خروج الناس للتصويت، وبكثافة، سيكون مأزقاً كبيراً، هو لا يمس شرعية الانتخابات قانونياً ودستورياً، إنما يمس الصورة العامة لها سياسياً في الداخل والخارج، وينتقص من مستوى التفويض الجديد. الشعور بأن السلبية قد تخيم على الناس يرجع إلى غياب التنافس الذي يجعل الحماس يفتر، ومعروف أن صراع الأفكار والبرامج والتناظر العلني يجبر الناس على المتابعة، ويدفع الحمية تسري في عروقهم فتتشكل لديهم قناعات الاختيار، وبالتالي يذهبون للدفاع عن هذه القناعات عبر الصناديق، لكن لأنهم يعلمون أن مرشحاً وحيداً يتسيد الساحة وحده، وهو الفائز مسبقاً، هذا قد يدفع إلى التكاسل عن الخروج إلى اللجان حتى لو كانت ملاصقة للمساكن. الناخب اتسم بالسلبية في الاستحقاقات الرئاسية عندما كان اختيار الرئيس يتم وفق نظام الاستفتاء، لم يكن أحد ينتخب وتظل اللجان خالية، الجمهور كان يعلم أن الرئيس المستفتى عليه ناجح بالنتيجة المعروفة، وهي الثلاث تسعات، الناخب ذكي، سلبيته مرهونة بمسبباتها، وليست مستديمة، تتزايد وتتراجع حسب منطق وديمقراطية العملية السياسية. أول انتخابات رئاسية تنافسية في 2005 لم تشهد مثل هذه الدعاية المحمومة رغم أنها كانت افتتاحية لعهد انتخابي جديد حتى وإن كان الكل يعلم أن مبارك هو الفائز، تراث مصر الانتخابي يقول إنه لا رئيس في السلطة يخسر سواء في استفتاء أو انتخابات، ربما يحدث شيء آخر لو خضعت الانتخابات للشروط والآليات المتعارف عليها دولياً في الديمقراطيات، ولو كانت ساحات وأجواء العمل السياسي آمنة ومنصفة وعادلة مع المرشحين جميعاً، ولو التزمت أجهزة ومؤسساتها الدولة الحياد الكامل. والانتخابات الثانية كانت في 2012، وقيل الكثير في انفتاحها وتنافسيتها وتعدد مرشحيها وحريتها، وكما ذكرنا فإن الانتخابات الثالثة في 2014 لم تشهد مثل هذا الالحاح الدعائي لدفع الناس للخروج والمشاركة إلى حد المحايلة مثل طفل تحايله أمه ليأكل أو ينام. الانتخابات عندما تكون جادة لن تتطلب الدعاية والترويج لحث المواطنين على المشاركة فيها، لأنها في حد ذاتها أكبر دعاية لنفسها، وسيتقاطر الناخبون عليها لإدراكهم بقيمة أصواتهم، وسيكون الاعلام المحلي والعالمي هو من يلهث ورائها. قد تكون هناك حاجة لبعض الاعلانات التي لها علاقة بأمور إجرائية لا بد من لفت انتباه الناخبين إليها، أو تريد اللجنة القضائية توصيل رسائل مهمة من أجل سلامة التصويت، أما هذا الذي يجري منذ فترة وبشكل لا ينقطع، فهو القلق على شكل العملية أمام العالم. تمنيت أن يكون 2018 مميزاً في تاريخ مصر، بأن تغطي التجربة الجديدة على تجربة 2012 في كل الوجوه، تجعلنا نتجاوزها ولا نظل نضرب بها المثل، وليس شرطاً أن يكون عدد المترشحين مماثلاً، ولو كان نفس العدد لصارت التجربة رائعة، المهم أن نشهد سباقاً ديمقراطياً مقنعاً يجعل المصريين والعالم غير قادرين على التقاط أنفاسهم خلال متابعته، ولا تكون النتيجة معروفة حتى إعلانها رسمياً، لكن أياً من ذلك لم يتحقق، فاتت فرصة أخرى ثمينة. من يدفع تكلفة الإعلانات التلفزيونية، بدءاً من مراحل التفكير والتخطيط والتجهيز والإنتاج حتى العرض؟، يصعب أن تكون مجانية، ولو بثتها القنوات مجاناً، فإن صناعتها لا بد أن تكون بلا مقابل؟. أي تكلفة مهما كان حجمها ستكون حلقة أخرى في إنفاق بلا مبرر، إنفاق هذه الأموال في أوجه تخدم الناس أفضل وأكثر جدوى لبلد فقير وفواتير ديونه ترتفع بشكل مزعج، وعجز موازنته مرض عضال. السيدة التي أنجبت عشرة أطفال، بينهم سبعة توائم، ونشرت "المصري اليوم" ملامح من حياتهم المعيشية الصعبة جداً قبل أيام هي من الفئات الأكثر استحقاقاً لبعض رذاذ نافورة أموال مثل هذه الدعايات بل والعملية كلها، هناك سيدات كثيرات يعانين مثلها في تدبير نفقات وحياة أسرهن، هناك فقراء بحاجة ماسة لهذه الأموال سواء كان مصدرها الدولة، أو يدفعها متبرعون متطوعون. وماذا لو أنفق المتطوعون تكلفة لافتات الدعاية - التي من كثافتها صارت حديث الإعلام العالمي - على الأسر المتعففة، أو المساهمة في تحسين بعض الخدمات في القرى والأحياء؟. ماذا التي لم يعد لها معنى!.