" سلمان " طفل هادئ الطباع، لا تظهر عليه علامات الشغب أو الشقاوة، مِثل كثير من أقرانه، ودائماً ما يتحلي بالمظهر الأنيق، وكنت أُلاحظ كثرة غياب سلمان عن المدرسة، فأجد مقعده داخل الفصل فارغاً معظم أيام الأسبوع، حتى أصبح اسمه يتصدر أسماء الغائبين يومياً عن الحضور المدرسى، مما دفعنى بدورى كمُعلم أن أسأل والدته عن سر شبه الغياب الدائم، لطفلها، وهو لايزال فى الصف الثانى الابتدائى . وذات مرة التقيت والدة سلمان داخل الحرم المدرسي، وسألتني عن مستوى طفلها العلمي، رغم أنها تعى جيداً أن كثرة انقطاعه عن المدرسة، أثَر سلبياً على تحصيله للمعلومات، وأفقده القدرة على التفوق ،لعدم تلقِيه مُعظم الدروس مثل زملائه المنتظمين فى حضورهم للمدرسة . وعندما صارحت الأُم بذلك، بدَت الأم على حالة من الحزن والقلق الشديدين، وأخبرتنى بأن فلذة كبدها يغيب مُضطراً عن مدرسته وزملائه، لأنه يُعانى من أمراض القلب، وقد أجرى عملية قلب مفتوح منذ فترة قليلة، رغم أنه عمره لا يتعدى السبع سنوات.. بل ربما أنه لم يحضر للمدرسة طوال العام الدراسى الماضى، بسبب معاناته مع أوجاع المرض الذى اعتدى على قلبه، غير آسفة على ما فاته من تعليم، بقدر ما شعرت به الأسرة من ارتياح وطمأنينة أن كُتِبَ لنجلهم عمر جديد،وما شغلهم سوى سلامته.. وسعادته!!. وبعد حديث الأم عنقُرة عينها، قُمت وتوجهت للفصل وأوصيت زملاء سلمان بالفصل، بأن يُعاملوه بالحُسنى، ولم أُخبرهم عن ظروف مرضه، حتى لا أجرح مشاعره، فيشعر بنقص أو يُصاب بحزن، وكنت أُوصى التلاميذ محذراً: "يا أولادى .. لا تمزحوا مع سلمان بأيديكم، ولا تستغلوا هدوءه فتضايقوه، فتثيروا غضبه"، وكنت أَنصح سلمان : "يا بُنى ..لا تسبق زملائك بالخروج من باب الفصل، ولا تكُن فى مُقدمتهم، إذا ما دقَ جرس الفسحة أو جرس الانصراف، فيتدافعوا عليك جماعات ومجموعات، فيدهسوك أو يُوكزوك بأيديهم وأرجلهم فى زحمة الخروج بلا قصد، فيُصيبك الأذى"، كنت فى حالة عطف وشفقة من لعنات مرض، يضجر منه الكبير، فما بالكم وقد أصاب طفل صغير. وذات مرة، وبينما أن داخل فصلى، وأشرح درسى، فإذا بباب الفصل يُفتح فجأة وبقوة، ويدخل سلمان، حاملاً حقيبته المدرسية الثقيلة على ظهره، وهو فى حال من الإعياء، ويمسك قلبه المريض بيديه، وكان يأخذ أنفاساً طويلة من الشهيق والزفير، ويظهر عليه آثار جهد ولغوب. بادرت سلمان بحديثى "اهدأ يا بُني، واجلس فى مقعدك، ثم أخبرنى ماذا بك ؟!" ، وبعدما هَدَأ سلمان أخبرنى بأنه ظل يجرى، بعدما دخل من بوابة المدرسة، حتى لا يمسك به مدير المدرسة، الذى كان يُلاحقه ويُطارده بخطواته السريعة وصوته الصارخ، ليُخوفه ويقذف بالرعب فى قلبه العليل، فتُصيبه الرهبة والفزع، فلا يجرؤعلى التأخير عن الطابور المدرسى مرة أخرى!!. ربت على كتف سلمان ، وجعلت أبتسم فى وجهه الذى أصابه العَرق والخوف الدفين، ورأيته يحاول أن يصطنع الابتسامة، حياء وحرجاً من ضحكات زملائه عليه. كانت عيناى تحرُس سلمان دائماً، مِن مزاح مَن يجلسون بجواره يميناً ويساراً، وكنت اُراقبه فأستحسه فاقدًا للتركيز، شارد الذهن والفِكر، وقد حوَله المرض إلى شخص هائم ، شِبه نائم ، كأنه فى حالة سُكر وخمول، وربما كان سبب تلك الحالة التى هو عليها من التأثير الشرس للمرض وجُرعات الدواء الأليم ، ولذا كنت أنهر من يحاول استفزازه ، مستغلاً سكونه ومسالمته وقلة عافيته. وعندما كنت أسمع " كُحة " سلمان الشديدة، كنت أتنهد حزيناً، من المرض الذى يُلاحقه ويتشبث بقلب ذلك الطفل الصغير، الذى يعيش مرحلة مرضية فى سن مبكرة، وقد حُرِم من شقاوة الطفولة أو اللعب مع صُحبته، أو كثرة الضحك إلا بحذر!!. كنت مشغولاً آسفاً على قلب الطفل، الذى لا يتحمل جهداً ولا جرياً، فيكفيه ما به من مرض ووهن جعلاه صاحب هموم مزمنة، وأدوية وجلسات علاج ليلاً ونهاراً، فكنت عندما أُبصره وهو يكُح، أُشاهده يفتح فمه على آخره، ويمسك قلبه وصدره بيديه الصغيرتين، حتى أننى كنت أشعر بأن روحه قد وصلت إلى حلقومه، وأوشكت أن تفيض لبارئها، ورغم آلامه ، كنت أجده مُبتسماً، يحمد الله، عندما أتحدث إليه وأدعو له أو أُواسيه ببسيط الكلمات التى تُفرحه، فكنت أفرح لفَرَحه، ذلك المسكين الذى لم يفقده مرضه بشاشة وجهه . كنت مُندهشاً من إدارة المدرسة، التى تستعين بطبيب مسالك بولية، بعد بلوغه سن المعاش، ليُتابع الصحة العامة للتلاميذ، ولكن كيف له أن يتابع تلميذاً مثل سلمان، يعانى أمراض القلب، ويحتاج لمتخصص ماهر كى يُتابعه. وكان عجبى أكبر أن مثل هذا الطفل المريض، يُفترض أنه حالة مرضية خاصة، أى لا بُد له من مُرافق " كمُمرض مثلاً "، ليُتابع حالته الصحية جيداً، إذ ربما تُداهمه أى أزمة قلبية مُفاجئة، ثم لم يكن برفقة سلمان هاتف محمول للاتصال بأسرته إذا شعر بأية وعكات صحية، وكنت أود أن يوضع فى فصل خاص به ، بعيداً عن المشاغبين وذوى الصرخات العالية، حتى يتوفر له بيئة من الهدوء والراحة . كان عجبى أكبر، من تكليف وزارة الصحة لممرضة بالتواجد الدائم داخل المدرسة، لتُتابع صحة التلاميذ، ولم يكن لدى هذه المُمرضة، أى فتاوى علاجية للتلاميذ المرضى، سوي" النُصح بالإفطار، دون فحصها الجيد للمريض، وكيف لها أن تفحصهم أصلاً، وهى ليست طبيبة، ولذا لم يكن لها أن تُتابع قلب سلمان المريض، إلا أننى وجدت نفسى أتحدث عن المستحيل فى وطن غلبت فوضاه على أصوله !!. مسكين قلب سلمان، فلقد أصابه البأس واليأس، ولعل ما به من مرض، يحمل أوجاعه وآهاته قريباً، ويرحل من قلب الصغير، فيموت المرض، ويتعافى سلمان، ويسعد قلبُه وقلب والدته. [email protected]