انطلقت في مصر عملية انتخابات لمجلس تشريعي لم يكن إجراؤها في الماضي ليلفت انتباه أحد في الداخل أو الخارج. أما هذه المرة فالمفترض أن تكون قد لفتت الانتباه لأنها تأتي في أعقاب أول وأهم جدل صاخب جرى في مصر وخارجها حول ضرورات الإصلاح السياسي في المنطقة العربية. بهذا المعنى لعبت الانتخابات بالنسبة لعدد من المراقبين السياسيين دور “المرصد الديمقراطي” ليرصد حجم ونوع ما تحقق من إصلاحات كان النظام الحاكم قد وعد بتنفيذها. وعلى الرغم من أن العملية الانتخابية خطت خطوة واحدة وتنتظر استكمال خطوات أخرى، إلا أنها في هذه الخطوة الواحدة أتاحت الفرصة لرصد أمور كثيرة واستشراف مستقبل الحملة الانتخابية والإصلاح الديمقراطي. وظهرت بعض نتائج الرصد، ويؤسفني القول إن أكثرها لم يبعث في النفوس اطمئناناً، وقد يبقى مصدراً للقلق، وربما للتوتر إذا لم تتحسن النتائج في الخطوات القادمة للانتخابات. اخترت للتأمل أربع نتائج ونتمنى أن تتحسن، وهي: * أولاً: خيبة أمل الأقلية الأكبر في المجتمع المصري في برنامج الإصلاح السياسي والاجتماعي، إذ تأكد أن الدولة المصرية، والحزب الحاكم فيها، تنكرا للمرأة فلم يبذلا أي جهد يذكر لإشراكها سياسياً في أول عملية انتخابية تجري بعد سنوات من الحشد والدعاية وأموال طائلة أنفقت تحت عنوان تمكين المرأة وتحريرها. مرة أخرى أسمع المرأة تردد القول الشهير إننا “معشر النساء لن نلعب في أحسن الأحوال سوى دور المساندات للرجال، أقصى ما يمكن أن تصل إليه واحدة منا هو أن تكون امرأة رجل مهم”. أسمع، والرأي العام يسمع، سقوطاً مدوياً لمجلس قومي أنشأته الدولة لتمكين المرأة وأتابع بالمشاهدة والإنصات إحباطاً هائلاً لدى ممثلات كافة مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في مجال تمكين المرأة، فقد خذلها المجلس عندما تقاعس عن حماية نساء تجمعن في مظاهرة سلمية فتعرضن لقسوة الأمن، وخذلها مرة أخرى عندما امتنع عن ممارسة حقه ونفوذه في الضغط على الحزب الحاكم وحكومته لتترشح بأعداد مناسبة في الانتخابات وتحصل على ما يحصل عليه الرجال من تأييد ودعم. لقد بدت المحطة الأولى في الانتخابات كما لو أن في مصر نساء لم يتحررن وكما لو كن عبئاً ثقيلاً على الدولة وعلى الحزب. روت إحداهن أنها عندما ذهبت لتسجيل اسمها للترشيح سخر منها المسؤول قائلاً لها تضيعين وقتك وتضيعين وقتنا لدينا من المشكلات ما يكفينا. * ثانياً: خيبة أمل الأقلية الثانية، أي الجزء الأقل عدداً من جزأي الأمة المصرية. لقد انتظر الأقباط أن تثمر “هوجة” الإصلاح التي قادتها الحكومة مع منظمات في المجتمع المدني مع حكومات أجنبية وضعاً سياسياً واجتماعياً أفضل لهم، وكانت هذه المرحلة من الانتخابات التشريعية المحك الأول للحكم على النوايا ولتخفيف حال الاحتقان المتولد عن احتكاكات بين متطرفين من هنا ومن هناك وعن تدخلات فاضحة وعن سوء إدارة مزمن ملتصق بهذا النوع من الأزمات الداخلية. خاب الأمل بعد أن اتضح أن القطاع الأهم في النخبة الحاكمة غير منشغل بالهم العام، بعد أن خرج الهم العام عن الشأن السياسي إلى الشأن الأمني، وأخشى أن يخرج، لو استمر الحال متدهوراً، إلى الشأن الأعنف. * ثالثاً: خيبة أمل كثير من الناس في أن يكون لمصر مستقبل تتمتع فيه بديمقراطية حقيقية وليس فقط بديمقراطية الانتخاب. ففي المرحلة الأولى من أول انتخابات تشريعية تجري في ظل حملة الإصلاح السياسي تدخلت “الإدارة”، أي الحكومة، لينجح مرشحو الحزب الحاكم. أشهد، كما يشهد كثيرون، لخبراء الحزب الحاكم بأنهم أبدعوا في صنع مزيج من تقاليد العمل القديمة، وأساليب العمل الحديثة التي استوردها الحزب من تجارب أحزاب أخرى في العالم الغربي، مخلوطاً للأسف بأسوأ ما طفح على قشرة المجتمع في السنوات الأخيرة مثل “ميليشيات مدنية”. كان المنتظر، في ظل حملة الإصلاح والرغبة في إظهار النوايا الحسنة والثقة بالنفس والرغبة في وضع أساس لنظام سياسي ديمقراطي مستقر، أن يشجع الحزب الحاكم الذي أعلن التزامه تحقيق مجتمع سياسي منفتح ديمقراطياً، أحزاباً أخرى ويفسح مجالاً لها للتنافس بهدف التدريب على العمل الديمقراطي وخلق كوادر تؤمن بالعمل السياسي السلمي، ولكنه للأسف اكتفى من التجارب المستوردة بصندوق زجاجي وحبر فسفوري واكتساح إعلامي وتعديلات في خرائط الدوائر. ومن ناحيتها سقطت أحزاب المعارضة في نظر الرأي العام لأنها لم تستعد ولم تجند كوادر جديدة ولم تتطور في أساليبها وعقائدها. * رابعاً: أما أخطر النتائج في رأيي فكانت تلك التي ترتبت على السكوت عن، ولا أقول تشجيع، استخدام بعض المرشحين أبشع ما في ترسانة مجتمعات الاستبداد والفساد من أدوات للحصول على أصوات الناخبين. لقد بولغ كما قيل في دفع الرشاوى العينية والمادية وفي استخدام العنف الفردي وفي التحرش بالمرشحين وفي نقل ناخبين بالجملة من أماكن عملهم إلى صناديق الانتخاب. وانتظرت أن تكون هذه الانتخابات درساً في أخلاق جديدة تليق بمرحلة انفتاح سياسي ودرساً في أبجدية العمل الديمقراطي وأصوله. ومازلت انتظر أن ينتبه الحزب الحاكم إلى أن دوره الأهم، قبل ممارسة الحكم، بناء منظومة أخلاق تحل محل المنظومة المنهارة. لا يهمني في النهاية من فاز ومن خسر حتى الآن، بقدر ما يهمني أن تصحح المراحل القادمة من هذه الانتخابات السلبيات التي وقعت في هذه المرحلة، وأهمها شعور البعض بأن الانتخابات لن تأتي إلا بمزيد من الفساد وتدهور الأخلاق العامة وتؤكد الانطباع بأن الموظف العام أو الناشط السياسي يجسد القيم السياسية والاجتماعية المتدهورة. أعرف أن كثيرين سيستفيدون من هذه الانتخابات من بينهم مرشحون فازوا وسيتمتعون بحصانة برلمانية تحمي مكتسباتهم لسنوات قادمة، وأعرف أن كثيرين في الحكم سيخرجون من الانتخابات وقد ازدادوا حكمة وخبرة، فقد انتصروا على الإدارة الأمريكية وفرضوا إرادتهم وأسلوبهم في الإصلاح وسيقدمونه نموذجاً لدول المنطقة باعتباره أقل تكلفة وخطورة من النموذج العراقي الذي تطرحه أمريكا، سيخرجون وللأسف، أشد اقتناعاً برأيهم القائل إن الناخبين لا يفهمون ولن يفهموا الديمقراطية كما تفهمها شعوب الغرب، وعلى الدعاة والمبشرين في الغرب أن يدركوا هذه الحقيقة. ولكن أعرف أيضاً أن مزاج الناس غير صاف. ولا أتحدث هنا تحديداً عن الناس في بلادي ولكن عن الناس في فرنسا وهولندة وجنوب الولاياتالمتحدة وفي الهند وأمريكا اللاتينية، ففي كل مكان توتر وميل للعنف. وفي منطقتنا نصيبنا منهما أكثر من نصيب غيرنا. ----- صحيفة الخليج الإماراتية في 17 -11 -2005