كانت ليلة أمس كابوسا حقيقيا ، منذ اللحظة التي انتقلت فيها تقديرات المصادر الأمنية من الحديث عن استشهاد ضابط وإصابة مجند إلى الحديث عن أربعة عشر شهيدا ، وقد أدركت ، بخبرة التكرار ، أن هناك كارثة حدثت وأن الأرقام الأولية ليست هي الحقيقة وأننا سنستقبل أخبارا سيئة في الأوقات المقبلة ، وحتى الآن وصلت التقديرات شبه الرسمية إلى حوالي خمسين قتيلا من رجال الأمن ما بين ضابط ومجند ، وهذه ربما أعلى حصيلة من الضحايا للشرطة في مواجهات الدولة مع الإرهاب . حتى كتابة هذه السطور لم يصدر أي بيان رسمي من أي جهة بتوضيح ما الذي حدث ، واضح أن ثمة ارتباكا في جهاز الأمن تسبب في تأخير البيان ، كما أن موجة الغضب الواسعة كررت المطالبة بإقالة الوزير مجدي عبد الغفار ، وهي مطالب تزايدت وتمثل ضغطا آخر على المؤسسة الأمنية ، ولكن ما ترشح من أخبار عبر شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الأجنبية أن معركة حقيقية جرت في الواحات واستمرة لعدة ساعات ، وأن الإرهابيين كانوا يمتلكون تفوقا معلوماتيا تسبب في مفاجأة القوات التي ذهبت لملاحقتهم ، وهو ما جعل بعض المحللين يطرح فرضية الاختراق الأمني ، كما أن المثير للدهشة أن مواقع التواصل الاجتماعي تتداول تسجيلات صوتية لاتصالات جرت بين مجموعة الضباط التي نجت من الكمين الإرهابي وآخرين ، ولا أعرف كيف خرجت هذه التسجيلات الصوتية ، ومن الذي سربها ، ولكنها إن صحت تدلل على أن هناك اختراقا حقيقيا جرى ، وتلك مصيبة أخرى . جميع الفضائيات المصرية الرسمية والخاصة استمرت في عرض برامجها العادية ، وبعضها كان أقرب للحفلات الراقصة ، رغم توالي أخبار الكارثة ، ولم تراع أيا منها مشاعر ذوي الضحايا ، فضلا عن جرح الوطن نفسه ، ولم تتغير البوصلة قليلا إلا في اليوم التالي ، بعد أن صدرت الأوامر فيما يبدو ، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على تبلد الإحساس تجاه آلام الوطن ، وأن كل شيء أصبح يباع ويشترى ، ويمكن أن نبيع دماء هؤلاء الشهداء من أجل حفنة أموال للإعلانات ، بل إني لم أسمع أبدا عن أحد من هؤلاء الإعلاميين الذين يصدعون رؤوسنا كل ليلة بالحديث عن الوطنية وجيشنا الباسل وشرطتنا الباسلة وعن دماء الشهداء ، لم أسمع عن أحدهم تبرع بشيء من الملايين التي يقبضها من تلك المتاجرة بدم الشهداء ، من أجل أسر هؤلاء الشهداء أو أطفالهم ، هي لن تعوضهم غياب الأب أو الزوج أو الإبن قطعا ، ولكنها لمسة إنسانية ووطنية عملية ، تشعرهم بأن الوطن معهم ، ولا ينسى تضحياتهم ، ولكن من يقنع هؤلاء الإعلاميين الدجالين الذين انتفخت كروشهم من الرغد وتضخمت أرصدتهم في البنوك من متاجرتهم بالوطن والوطنية ودم الشهداء ، ثم لا يبيعون للوطن إلا الكلام . العملية الإرهابية التي جرت أمس في الواحات ، بضخامتها وعدد من شاركوا فيها والذين قدروا بحوالي مائة مسلح ، وطول المدة التي استغرقتها ، وحجم الضحايا الذين خلفتهم وراءها ، والمكان الجغرافي الذي وقعت فيه ، يعطي مؤشرا واضحا على أن خرطة الإرهاب تمددت بصورة مخيفة في ربوع الوطن ، وأن الإرهاب أصبح يمتلك أرضية ودعما لوجستيا ، وبعد أن كان الخطر شبه محصور في العريش ورفح والشيخ زويد ، وتم عمل منطقة عازلة بعمق كليو أو كيلو ونصف عن حدود غزة ، اليوم نشهد مثل تلك المعركة الواسعة في غرب القاهرة ، وعلى مسافة مائة وثلاثين كيلو متر فقط عن العاصمة ، كما أن هذه العملية تأتي في أعقاب التمديد لقانون الطوارئ ، وهو الذي تمدد قبل ذلك حوالي ستة أشهر ومع ذلك لم يمنع تلك المجموعات الإرهابية من التحرك وتخزين السلاح والتدريب والرصد والتمويل وخلافه ، كما ان الطوارئ معلنة في سيناء منذ أربع سنوات ومع ذلك تشهد العريش أسوأ الأعمال الإرهابية وأكثرها دموية ووحشية ، ولم يتضرر من الطوارئ إلا الأهالي العاديين ، وهو ما يشير بوضوح علمي وعملي واضح على أن الطوارئ ليست سلاحا ناجعا ضد الإرهاب أبدا ، بل إن الإرهاب يتمدد في ظلها ويتوحش أكثر ، وأن الطوارئ لا تثمر إلا في محاصرة السياسة والنشاط السياسي السلمي المدني بمختلف صوره ، هي أداة للسيطرة وخنق المعارضة المدنية والأحزاب والجمعيات الأهلية والإعلام والصحف وتأمين كرسي الحاكم ، فقط لا غير ، ولا شأن لها بالإرهاب على أرض الواقع ، وعلى الذين يدافعون عن الطوارئ بوصفها ضرورة لمواجهة الإرهاب أن يتأملوا في المشهد جيدا ويرجعوا مواقفهم وتصوراتهم . رحم الله شهداء الوطن ، وربط على قلوب أهليهم وأبنائهم وآبائهم ، وعوضهم خيرا ، وحفظ بلادنا من كل شر ، ووفقها لطريق الرشد السياسي والوطني . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1