لا شك في جدوى وفعالية الأساليب والطرق الحديثة المأخوذ بها من قبل المدارس الدولية والخاصة في تطوير العملية التعليمية؛ ولا جدال في كون تلك الأساليب أداةً ناجعةً وممهدةً لبناء شخصية حية نابضة متفاعلة مع مستجدات وتحديات القرن الواحد والعشرين التي منها الثورة التكنولوجية والمعلوماتية المهولة. فاستخدام الحاسوب (الكومبيوتر) – كأداة أساسية في العملية التعليمية – أضحى ضرورةً يومية لا يُستغنى عنها في خلال اليوم الدراسي، سواءً من قبل المعلم أو الطالب. والاسترشاد باليوتيوب بات مصاحباً طبيعياً لكل درس؛ وواجباً إلزامياً على كل مدرس ليجعل من حصته مادةً شيقة وممتعة. ويستوقفني هنا موضوع "التشويق" لدى التلاميذ؛ ذلك الموضوع الذي بات يأخذ بعداً غريباً وشاذاً على مدى العقدين الأخيرين. إذ تحول تشويق التلميذ - لتحصيل العلم – إلى أمرٍ ذي أولوية قصوى، لا تنفع ولا تجدي العملية التعليمية من دونه؛ وكأنه صار شرطاً للتعليم. فأضحت عملية التشويق – ومعها التدليل والتبسيط والاختزال – هي المركز الذي يدور في فلكه التعليم. وكأن لسان الحال يقول: إذا لم يتوفر التشويق في أثناء الحصة الدراسية فلن يرضى التلاميذ بالاستماع والتلقي من قبل المعلم. وهكذا صارت العملية التعليمية مشروطة بذلك التشويق وليس مشروطةً بالجد والاجتهاد والمثابرة؛ الأمر الذي يؤدي تدريجياً إلى هدم مفاهيم الكدح والاجتهاد. وهو ما لمسته بنفسي في أثناء عملي كمعلمة في مدرسة خاصة ومعروفة؛ حيث فوجئت بعملية "التدليل" تلك التي صارت منهجاً واضحاً للتدريس، والتي أضحت أمراً واقعاً فرضه أولياء الأمور والتلاميذ معاً؛ ورضخت إليه إدارة المدرسة بكل أسف. فأولياء الأمور الذين يدفعون عشرات آلاف الجنيهات في تلك المدارس لا يريدون رسوباً لأبنائهم المدللين. وإدارة المدرسة التي تعتمد في ميزانيتها على تلك الآلاف لا تريد إغضاب أولئك الآباء أو إلجائهم إلى سحب أبنائهم منها. وأما الأبناء المدللون الذين باتوا يفرضون طلباتهم على آبائهم فهم لا يريدون طريق الكدح والاجتهاد سبيلاً للنجاح، وإنما يريدون النجاح بأقل مجهود ممكن. إنها تلك الحلقة الجهنمية التي تجمع إدارة المدرسة مع أولياء الأمور مع الأبناء الطلبة...تلك الحلقة التي تتآمر في نهاية الأمر، سواءً بقصد أو دون قصد، على العلم والتعليم...بل على عقول الأبناء ومستقبلهم. فيخرج لنا في النهاية جيلاً مُسطحاً أنانياً مادياً كسولاً. الإسم أنه خريج مدارس دولية وخاصة مميزة لها سمعتها، ولكن الحقيقة أنه يخرج منها خاوي العقل والفكر والروح والقلب. لقد أضحى الظاهر للناس هو الذي يحتل أولويات البشر، بغض النظر عن مكنونه ومضمونه. وصار "التمثيل" هو الأصل في الأمور...فالتلاميذ يذهبون للمدارس المميزة كأنهم يتعلمون تعليماً متميزاً عن بقية المدارس؛ ولكن في الحقيقة هم لا يتعلمون. وختاماً، لستُ ضد تطوير العملية التعليمية شريطةً ألا يؤدي ذلك إلى التسطيح والتدليل. فأن يؤدي التطوير إلى خلق شخصية كسولة مادية مرفهة، لا تعي مغهوم "الكدح" الذي يمثل سُنةً أصيلة وأساسية من سنن الله الكونية...فذلك أمر مرفوض ديناً وشرعاً وفطرةً وعقلاً ومنطقاً ومصلحةً. وليتت آثار التطوير التعليمي تقف عند هذا الحد؛ بل إنها تتعداه بمراحل لتصل وتنفذ إلى ما هو أكثر خطورةً...تنفذ إلى العقيدة والتاريخ واللغة، وكل ما يمس تشكيل الشخصية العربية. وهو موضوع يجب أن نفرد له مقالاً آخر....