التقرير الذي أصدرته منظمة "هيومان رايتس ووتش" العالمية لحقوق الإنسان عن التعذيب في مصر هو تقرير مروع بالفعل ، لأنه ذكر طرقا وأدوات تفصيلية للتعذيب البشع الذي يتم حاليا في السجون ومراكز الاحتجاز الأمني ، كما ذكر شهادات شهود وضحايا بالشرح الوافي ، والأخطر أنه اتهم السلطات المصرية باتخاذ هذا التعذيب أسلوبا "منهجيا" للتعامل مع المعارضين في السجون ومراكز الاحتجاز ، كما اتهم التقرير الرئاسة المصرية بأنها أعطت الضوء الأخضر لرجال الأمن لاستخدام هذا السلوك "المنهجي" في التعذيب والذي وصفته بأنه يرقى لمستوى الجرائم ضد الإنسانية . المنظمة العالمية ليست مركزا حقوقيا في المهندسين أو وسط البلد بحيث يتم التعامل معه بالخفة التي حدثت من قبل الحكومة المصرية والإعلام الرسمي ، وإنما هي منظمة دولية رفيعة الشأن وصاحبة مصداقية وتاريخ ، كما أنها حصلت على جائزة نوبل للسلام اعترافا بدورها في دعم الحريات وحقوق الإنسان ، وتقاريرها تحظى باهتمام دولي سواء على مستوى الحكومات أو البرلمانات الكبرى أو على المستوى الإعلامي بكافة تشعباته ، وبالتالي كان من المفترض أن يتم التعامل مع التقرير من قبل السلطات المصرية بجدية أكبر واحترافية ، وليس بتلك السخافات التي تتهم المنظمة بأنها مخترقة من الإخوان أو أنها ممولة من قطر ، وهو كلام مهين جدا لمصر نفسها أمام الآخرين ، ولا يمكنه أن يقنع أحدا في العالم ، بل يضاعف من سوداوية الصورة ، ويبدو واضحا أن أصحاب القرار في القاهرة يخلطون بين الخطاب السياسي والإعلامي الموجه للداخل والاستهلاك المحلي ، وبين الخطاب الموجه للعالم الخارجي ، فالتهريج الذي يتم تسويقه في الداخل لا يصلح نهائيا للتسويق خارجيا . خطآن كارثيان وقعت فيهما الحكومة المصرية في تعاملها مع هذا التقرير ، الخطأ الأول هو قيام السلطات بحجب موقع "هيومن رايتس ووتش" في مصر ، وهذا على طريقة ما يقوله العامة "جه يكحلها عماها" ! ، لأنه وهو يحاول الرد على منظمة حقوقية تدافع أساسا عن الحريات قام بمصادرة موقعها هي نفسها ، ليثبت على نفسه تهمة ممارسة القمع ومصادرة الحريات الإعلامية والحقوقية والتستر على وقائع التعذيب المنشورة ، والخطأ الثاني هو حشد السلطة لقواها البرلمانية والإعلامية والحقوقية الرسمية لكي تكذب التقرير جملة وتفصيلا ، وهذا دليل إدانة في حد ذاته ، لأن المفترض أن لجان البرلمان "الموقر" عندما تتصل ببيان دولي مثل هذا أن تقرر إجراء تحقيق فيه ، ولو شكلي ، قبل الرد عليه ، أما أن تقرر الدفاع عن سلوكيات الأمن وممارسات التعذيب اعتباطا ودون أن تبذل أي جهد للتحقيق في ما ورد بالتفصيل في تقرير المنظمة الدولية فهذا يعطي الانطباع خارجيا بأنك مجرد "بوق" للتستر على الوقائع ، وهو ما يضعف أي بيان أو إجراء يقوم به البرلمان ، والأمر نفسه في ما يتعلق بموقف المجلس القومي "الرسمي" لحقوق الإنسان ، في نسخته المعدلة و"المحسنة" ، بعد إبعاد الشخصيات الوطنية المستقلة من "بقايا" أيام الثورة وعبير حقوقها ، فقد اعتبر المجلس أن تقرير المنظمة الدولية كذب وافتراء لتشويه الصورة "الناصعة" لمصر في مجال الحقوق والحريات ، هكذا دون أن يقرر إجراء أي تحقيق أو دراسة ، ولو شكلية ، أو حتى أن يعد بذلك ولو على سبيل التمويه ، عما أوردته المنظمة من وقائع خطيرة في تقريرها مدعومة بشهادات تفصيلية للضحايا . الحديث عن التعذيب في مصر ليس جديدا ، وحتى العام الماضي كانت المنظمات المصرية نفسها تنشر وقائع بشعة للتعذيب الذي يجري ، حتى المجلس القومي "الرسمي" لحقوق الإنسان ، قبل غربلته وإبعاد المستقلين منه ، كان يتحدث عن التعذيب ويطالب بالتحقيق فيه ، ولا يوجد مشتغل بالشأن العام في مصر يجهل هذا الكلام ، وهو لا ينتظر تقرير منظمة دولية أجنبية لكي يتأكد من ذلك ، ولكن الخطير هنا أن المسألة لم تعد محلية ، وإنما اتهامات دولية تتدارسها برلمانات دول مؤثرة ، بما فيها أعضاء الكونجرس الأمريكي ، ويمكن أن تؤثر جوهريا على المساعدات الأجنبية وعلى توريدات السلاح وتجهيزات الأمن وخلافه ، ومحاولة التقليل من خطرها وقيمتها عبر أصوات "النفاق" المحلي لن تخدم السلطة ، ولن تنجيها من توابع خطيرة ، خاصة وأن التقرير أشار إلى مسئولية رأس الدولة عن ما يجري . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1