ذهبت ذات يوم، كى أعطى درسًا خصوصيًا، لتلميذة بالصف الخامس الابتدائي، وعندما عقدت لها اختبارًا بسيطًا فى مادة اللغة الإنجليزية.. وجدت نفسى مصدوماً، من التلميذة التى لا تعرف عن الإنجليزية إلا القليل من حروفها، وحينها سألتها: "ماذا يعمل والدك؟"، أجابتني: "والدى متقاعد من وظيفته الحكومية.. والآن يعمل سائقاً، وهو لا يعود للبيت إلا ليلاً"، فتنهدت بنبرة حزينة، ثم سألتها ثانية "وهل تعمل والدتك؟!"، فقالت لي: "إن أمى تعمل بوزارة التعليم بالقاهرة وتسافر فجرًا ولا تأتى إلا آخر النهار"، فسألتها مندهشًا: "وهل تتأخر والدتك لهذا الميقات حتى تعود من عملها كل يوم؟!"، فردت قائلة: "الحمد لله أننا نراها.. فهى أحيانًا تخرج فى مأموريات عمل، فتسافر إلى الصعيد، وتغيب لمُدَة تصل لأسبوعين!! "، وحينها انعقد لسانى عن أى تعليق، وأدركت سر الفشل الدراسى الذى لحق بهذه المسكينة التى لا يدخر أهل بيتها - لها - من وقتهم، ولو ساعة - يوميًا - لمتابعة دراستها، ثم استأذنت وقمت منصرفًا حزينًا على ذلك الإهمال الأُسرى الكبير!! وفى إحدى المرات، كنت أعلِّم طفلين توأم بالصف الثالث الابتدائي، من خلال حصة درس منزلي، وكان هذان الطفلان يعانيان من تدنٍ ذريع وضعف فى تحصيل اللغة الإنجليزية، رغم جهودى الهائلة للارتقاء بهما.. وفى إحدى المرات، وجدت كلا الطفلين يمسك بقلمين جديدين.. وأخبرانى أنهما قد كُرِما اليوم فى طابور المدرسة الحكومية التى يتعلمان بها، لتفوقهما فى اللغة الإنجليزية.. فتعجبت لهذا التفوق المفاجئ، واستحييت أن أسألهما، إذا كانا قد سلكا طريق الغش لنيل النجاح باكتساح، أم كيف كان السبيل لفلاحهما ونجاحهما، حتى حققا ذلك التفوق المزعوم!! كنت أشاهد مدير مدرستى الإعدادية، وهو يحضر للمدرسة متنعلاً "الشبشب" بحجة أنه من ساكنى الريف، وكان دور سعادة المدير منحصرًا فى تشريفه للفصول، إذا ما طُلِبَ لترهيب وتخويف الطلاب، من خلال نهره أو ضربُه - بعصاه –للمقصرين، كان حضرة المربى الفاضل فى معزلٍ تام عن العلوم والمعارف التى تحويها بطون الكتب وسطورها وصفحاتها، وكذلك كان فاقدًا القدرة على مناقشة الطلاب فى محتوى مناهجهم لجهله بخباياها، بسبب قدراته الثقافية المحدودة، وما أوتى من تعليم متوسط ضيق الآفاق، لأن ما تعلمه كان يؤهله لأن يسأل أو يُسأل فيُجيب عن أى أسئلة أو موضوعات تخص المناهج المحشوة بالمعلومات.. ولذا فإن التدرج الوظيفى لهذا الرجل، حتى صار مدير مدرسة، لم يكن إلا خطأ جسيمًا وقرارًا أعمى من قِبَل وزارة التعليم، أن تمنح أصحاب الدبلومات الزراعية وشبيهاتها، درجة مدير عام بالتعليم.. وإن تنبه قطاع التعليم، بعد ذلك بعقود، لخطورة ترقى تلك الفئة محدودة التعليم، لأى مناصب قيادية.. حتى خُصِصت فرص الترقى - فقط - لكل مُعلم جامعي، يصلح لأن يكون قياديًا ورائدًا وفدائيًا يواجه المشكلات والصعاب، بصبره وحنكته وحكمته. ومثلما كان يتنعل مدير المدرسة "الشبشب" داخل مقر عمله، كنت أشاهد طلاباً يرتدون "الترنجات البيتية" داخل المدرسة، ومنهم طلاب يدرسون بالثانوية العامة، حتى أن طالبًا بالمرحلة الإعدادية ذات مرة، حضر لمدرسته، مرتديًا الجلباب الأبيض، بعدما وضع نصفه السفلى داخل البنطلون، ليظهر وكأنه قميص، ولا عجب من ذلك.. فنحن نشاهد معلمى مصر الذين يسكنون الأرياف يذهبون لمقار أعمالهم بمدارسهم، مرتدين الجلباب، بحجة أنهم فى إجازة، ولن يراهم طلابهم فيسخرون منهم أو ينتقصون من قدرهم بسبب طبيعة ملابسهم، ولعظيم الأسف أن هؤلاء المعلمين ليس لديهم دراية بضرورة ارتداء الزى الأفرنجي، الذى يعتبر الزى الرسمى المعتاد، داخل مدارس مصر سواء بالريف أو البندر!! وفى إحدى الحصص الاحتياطية، فوجئ مُعلم ما، بأحد الطلاب يتناوله بالسخرية الجريئة أمام باقى الطلاب، ثم لم يهتم ذلك المُشاغب بتوبيخ وتحذير مُعلمه له بسبب إساءته فى الأدب، ومع تمادى الطالب فى حركاته الساخرة وتفوهه بالألفاظ التى تثير الغيظ، اضطر المُعلم أن يعاقبه بالضرب، حفظًا لكرامته أمام الطلاب، أما الطالب المُعاقب فسارع بإخبار والده هاتفيًا، بكل ما حدث، فحضر الأب ثائرًا مسرعًا إلى مقر المدرسة التى يتعلم بها نجله، صارخاً فى وجه ذلك المُعلم، ماسكًا بملابسه، محاولاً إهانته، مخاطبًا إياه بأسلوب فظ، ثم سأل ابنه بلهجة ساخرة "وهل هذا معلم؟! إنه كذا كذا".. واصفًا المُعلم بالسُباب والشتائم، ثم أوقع باللوم على ابنه لعدم ضربه لهذا المعلم، الذى يراه ضعيفًا بلا حيلة، ويمكن مجازاته، أو فصله وطرده بتوصية من مالك المدرسة الخاصة التى يعمل بها!! إنها كارثة أن يتعود بعض الطلاب، على الانقطاع عن الحضور المدرسى طوال الأسبوع، ولا يحضروا للمدرسة إلا يوم حصة الألعاب فقط، ليلعبوا، أو يأخذهم الشوق للحضور فى أيام تسليم التغذية المدرسية، ليستلموها، ثم يبيعوها للمدرسين بأبخس الأثمان. ثم لا ينبغى أن ينبذ المعلم طُلابه بالألقاب، أو أن ينبذ الطلاب معلميهم بشر الأسماء ومن المُعيب أن يقف مدير مدرسة، أثناء الفسحة المدرسية، فى وسط الفناء المدرسي، سابًا التلاميذ بحنجرته المدوية، مناديهم بأسماء الحيوانات والجماد، ثم يقف نفس مدير المدرسة، أثناء طابور الصباح، وينادى بصوت مُزلزل وعيناه تملؤهما الشرور، على أحد أطفال الابتدائية، طالبًا منه الخروج من الطابور والحضور إليه، ثم الإمساك بالطفل، وإشباعه ضربًا بكلتا يديه، كنوع من العقاب لخطأ ما ارتكبه، أو لمشاجرة طفولية مع قرين له!! كلا إن هذه السلوكيات، ليست من أصول التربية، ولو ظن أهل الخطأ - خطأ منهم - أن تغليظ الحناجر، والقسوة وتقبيح اللسان هو أنسب الحلول لتقويم وتطوير التعليم.. خاب وخسر من آمن بذلك!! [email protected]