د.سعاد فطيم المديرة السابقة لمدرسة بورسعيد.. المدرسة العريقة القابعة فى الزمالك.. عملت بها على مدار ربع قرن حتى رأستها وينسب إليها جزء كبير من إنجازات المدرسة وسمعتها التى ظلت متألقة لسنوات. بدأت الدكتورة سعاد كمدرسة للغة الإنجليزية فى أماكن متفرقة فى مصر، وحصلت على منحة لاستكمال دراساتها العليا بإنجلترا حيث حصلت على درجة الدكتوراة من جامعة إكستر سنة 1988. عاشت حياة غنية بالإنجازات ودرست لأجيال كثيرة درست لأبناء الأعيان كما درست لمعظم أبناء رجال الثورة فى مدرسة آمون بالزمالك حيث عملت لفترة، منهم أبناء «حسين الشافعى» و«كمال الدين حسين» والدكتور «محمد عوض محمد» والرسام «صلاح طاهر» كما درست البنات الفلاحين فى عمق الصعيد. كان من ضمن تلاميذها أيضا الدكتور «أحمد درويش» وزير التنمية الإدارية .. وبعد أن خرجت إلى المعاش أمر الرئيس حسنى مبارك بتعيينها فى المجلس القومى للتعليم. الدكتورة سعاد ليست نموذج (ناظرة المدرسة) التى ترتدى ماسك خشب وتكتسب جاديتها من نظارتها كعب الكوباية وشعرها الملفوف على شكل كعكة دائرية لكنها امرأة أنيقة لها حضور رائع أضاف العمر عليها وقارا وأعفاها من مؤثرات تصيب من ليس فى نشاطها وحبها للحياة والأهم حبها للعطاء. لكل صاحب فكر أو مدرسة نقطة تحول أو لنقل نقطة انطلاق فى حياته.. ما هى نقطة انطلاقك؟ - عندما كنت فى إنجلترا شاهدت نوعاً من الطلبة أبهرنى. حلمت أن يكون تلاميذنا هنا فى مصر على نفس المستوى. كنت أجلس فى الأتوبيس الذى كان يقلنى إلى عملى وأتأمل تلاميذ ابتدائى هناك.. هندامهم والقدر العالى من الثقة بالنفس الذى يتمتع به التلميذ منهم.. كنت أشاهدهم فى إنجلترا وقلبى فى مصر. من هنا انطلقت رؤيتك للتعليم؟ - لا أستطيع أن أدعى أنه كانت لدى رؤية للتعليم منذ اليوم الأول.. ولا توجد تجربة واحدة كونت رؤيتى للتعليم. بدأت عملى وعمرى 22 عاماً.. أما رؤيتى، فقد بدأت فى التكون عندما عايشت العملية التعليمية فى أماكن متعددة. خارج مصر؟ - بل كان البعض منها ريفيا. عملت فى أماكن لم يكن تعليم الفتيات فيها أمرا مهما. كما درست وأنا مازلت فى بدايات العشرينيات طالبات أكبر منى سنا فى «مدرسة المعلمات» التى كانت تخرج المعلمات، كما ترين أنا قصيرة القامة، صغيرة الحجم بعض الشىء كنت أشعر برهبة. لكن عندما وضعت فى المسئولية اكتشفت أن عندى إرادة بل ورؤية وأن لدى الكثير الذى أستطيع أن أعطيه للآخرين. استفدت من النظام التعليمى الأجنبى الذى كان موجودا قبل الثورة وساهم فى تكوين رؤيتى التعليمية أيضا الطفرة التى شهدناها بعد الثورة حين أصبح التعليم لكل إنسان. ولو طلبت منك وضع خلاصة لهذه التجربة الثرية؟ - الخلاصة أن رؤيتى هى: إن المدرسة التى تريد أن يكون منتجها طالبا جيدا ومبهرا وفعالا أينما يذهب عليها (أن تعلم الطالب كيف يتعلم). هذه عبارة تبدو سهلة للوهلة الأولى لكنها فى الواقع تحتاج إلى شرح؟ - أى أن تجعل الطالب شريكا فى العملية التعليمية وليس متلقيا لها فحسب.لا أكتفى بإعطائه المعلومة لكن أعلمه المهارات التى يستطيع أن يكتسب من خلالها هذه المعلومة. هل يصيبك الإحباط إذا لم يقدر تلاميذك ما تقدمينه لهم أو لم يستوعبوه؟ - الطلبة يشعرون ويفهمون ويقدرون ويتفاعلون. بالرغم من حزمك وصرامتك؟ - الحزم والصرامة لا يحولان دون وصول الحب والعطاء فأنا لم أكن صارمة بمعنى الأمر والنهى، لكننى كنت أفتح آفاقا للطلبة لإخراج مواهبهم ويحضرنى هنا موقف أثر فى جدا.. سنة 1958 كنت أدرس اللغة الإنجليزية لطالبات فى قرية قرب الزقازيق، اسمها «أبوحماد» كان عدد الطالبات معدودا وكن يمثلن كل قطاعات القرية ابنة الفلاح وابنة طبيب القرية وابنة العمدة وابنة الموظف وبعض بنات الأعيان. أصررت على أن أعلمهن اللغة كما تعلمتها. كنت أبقى معهن بعد الساعات المدرسية محاولة أن أجعلهن يتقن اللغة وطريقة نطقها. وعندما كنت أعود إلى القاهرة فى عطلة الأسبوع كنت أرجع لهن بالهدايا والشيكولاتة لتشجيعهن. وفى طابور الصباح وجدتهن يغنين نشيد «مصر.. مصر.. مصر أمنا» يقولون «مس، مس، مس أمنا!» حيث كن يناديننى ب«مس». ولو كن أعطيننى قلادة النيل، ما كنت فرحت قدر فرحتى بهذا الموقف. هل تؤيدين فكرة تدخل المدرس فى حياة تلميذه ومشاكله الخاصة.. أم ترين أن هذا ليس من اختصاصه أو تعتبرينه نوعا من كسر الحواجز لا داعى له؟ - أتذكر هنا قصة.. كان عندى تلاميذ إخوة فى المدرسة والداهما أرادا الانفصال. كانت الأم تأتى لمقابلة أولادها فى المدرسة، وكان منظر اللقاء محزناً. كانت تزورنى فى مكتبى باكية. تشاورت مع كل منهما على حدا ونجحت فى لم شملهما مرة ثانية واحتضنا أولادهما. وهل يحرص تلاميذك على التواصل معك؟ - أكبر تكريم أتلقاه هو اتصال تلاميذى من الستينيات والسبعينيات والثمانينيات معبرين عن حبهم وامتنانهم. إن أحد تلاميذى بعد تخرجه وزواجه تعرض لحادث لقى حتفه على أثره وكانت طفلته لاتزال فى رحم أمها وبعد أربع سنوات أتت جدتها بها إلى المدرسة وعرفتنى من تكون. احتضنت الطفلة كحفيدة لى حتى تخرجت و تزوجت بل و سميت إحدى حفيداتى على اسمها. عايشت أجيالا من المعلمين كيف تقيمين تطور المعلم من الستينيات حتى يومنا هذا؟ - أرى فى تخوف، أن التردى أصبح مثل حصان جامح يجرى ولا يستطيع أحد أن يمسك بلجامه. ما الذى فشلت فى تحقيقه؟ - لا أحب أن أشعر بالفشل، لكن فشلى الحقيقى الذى أود أن أعترف به فعلاً هو أننى عملت بمدرسة بورسعيد لمدة 25 سنة بدأت كمدرسة، ثم مديرة للمرحلة الابتدائية، ثم نائبة مديرة، ثم مدير عام، و فى كل منصب اتخذته كنت أدرب مرءوسى وأحاول جاهدة أن أضرب لهم مثلاً يحتذى به. كنت أمدح وأشجع وأشكر وأهذب وبالرغم من ذلك فشلت لأن من أعددتهم لكى يخلفونى فى قيادة المدرسة، و يستكملوا المسيرة التى بدأتها للأسف فشلوا فشلاً ذريعاً فشعرت أننى أنا أيضاً فشلت. لم يستطيعوا أن يقفوا ضد التيارات الخارجية التى دائماً ما تسعى لضرب النجاح. فقد بنيت مسرحاً فى مدرسة بورسعيد بمبلغ 2 مليون جنيه فى وقت لم تكن فيه ميزانية المدرسة قادرة على تغطية التكاليف. عندما دعوت الدكتور فتحى سرور لحضور مسرحية للطلبة والدكتور فتحى سرور كان بالمناسبة من العلامات فى حياتى رغم قصر المدة التى تعاونا فيها، المهم أعجب جداً بالعرض وسألنى لما لم تعرض المسرحية بالمدرسة لأنها كانت على مسرح خارجى فقلت له إن المدرسة ليس بها مسرح فأعطانى تفويضا لجمع إعانات من أولياء الأمور وبالفعل استطعنا جمع المبلغ وبنينا مسرحا هائلا حتى إنه كان يطلق عليه الأوبرا الصغيرة. وكنا نستخدمه للندوات. دعوت أشهر رجال مصر وعلمائها. أبطال حرب أكتوبر وأسرة أنور السادات وأسرة جمال عبدالناصر وأهم الأطباء فى مصر وغيرهم. ما الذى لم تيأس منه ومازلت تعملين على تحقيقه؟ - كنت من أوائل الناس الذين أصروا على إدخال التعليم الأمريكى إلى مصر كنت مؤمنة أنه يمكن أن يخرج العملية التعليمية من المأزق التى هى فيه. لكن للأسف عندما دخل إلى مصر شاب تطبيقه خلل كبير. أنا مازلت أقاوم لإصلاح ذلك عن طريق عملى فى مدارس أمريكية. إلى أى مدى يمكن لمدير المدرسة أن يشارك فى إصلاح العملية التعليمية؟ - لديه من الطرق الكثير. فيستطيع تدريب المدرسين وانتقاء الصالح منهم والاستغناء عن غير الصالح وعليه أن يتابع أن المعلمين ينفذون ما تدربوا عليه وأن تلاميذ مدرسته يتعلمون عن طريق الفهم. الدكتور أحمد زكى بدر.. من أين عليه أن يبدأ؟ - المشكلة مهولة. وزير التعليم أمامه مثلث: المدرسة، المعلم، الطالب وقد بدأ بالفعل فى إصلاح المدرسة لعل وجوده فى الوزارة يطول ويستطيع إنجاز ما بدأ فيه. وهو بلا شك فى موقف لا يحسد عليه، لأنه كما يقول المثل «اتسع الخرق على الراتق». فأنا يومياً أقرأ الفاتحة و أدعو الله أن يساعده فى مهمته. وأود مساعدته إن أراد.