إن النظرة المتأملة للثورات الشعبية التى قامت فى القرن الماضى فى بقاع شتى من العالم، تثبت لنا أمرًا الدور الحاسم والمهم الذى لعبته المؤسسة العسكرية فى تلك الدول سلبًا أو إيجابًا فى المسيرة السياسية لتلك البلدان. سيطرة المؤسسة العسكرية على مصر اليوم وبعد قيام الثورة فى خمسة بلدان عربية يمكن من واقع التجربة الحية أن نصنف دور المؤسسة العسكرية فى مساعدة الجماهير على إحداث التغيير المنشود كما حدث فى تونس حتى الآن، أو محاولة احتوائه كما حدث فى مصر، أو محاولة القضاء عليه كما حدث فى سوريا وليبيا أو العجز عن القيام بأى دور كما فى اليمن! إنه لا يمكن أن نغض الطرف عن تاريخ العلاقات المدنية العسكرية فى العقود الثلاثة الأخيرة، والتى تؤكد أن المعادلة القديمة التى تقول إن أساس الحكم فى البلدان العربية كان ولا يزال قائمًا على الارتكان لهذه المؤسسة. فعلى صعيد السيطرة السياسية لطالما كان انقلاب 1952م فى مصر البداية الحقيقية لعسكرة الحياة السياسية طوال الستين عامًا التالية، لذا طالما كان الرئيس من المؤسسة العسكرية التى ترتضى التعاون مع القوى الدولية الجديدة بريطانيا أولاً ثم روسيا فى مرحلة ما، ثم الولاياتالمتحدة قبيل حرب أكتوبر 73 وحتى الآن، فلا ضرر فى استمرار هذه المؤسسة فى عملها طبقًا للإستراتيجية التى خطتها لنفسها، ولا داعى لأن يقحم العسكر أنفسهم فى الحياة السياسية أو التآمر لإحداث انقلاب عسكرى مباشر، طالما كان رئيس الجمهورية "القائد الأعلى للقوات المسلحة" ابن من أبناء هذه المؤسسة، ولنا أن نحكم على الحياة السياسية والديمقراطية والحزبية فى مصر طوال هذه الأعوام الستين بالفشل الذريع الذى كان سببًا فى قيام ثورة 25 يناير 2011م، والتى ارتضى كل الأطراف مرة أخرى أن تكون المؤسسة العسكرية هى الحاكم للمرحلة الانتقالية المفخخة! أما على صعيد الممارسة الاقتصادية، فمن أجل ما كُتب فى هذا الشأن ما ذكرته أستاذة العلوم السياسية الدكتورة رباب المهدى فى مقال لها بعنوان "العلاقات المدنية العسكرية فى مصر" نشرته صحيفة الشروق المصرية فى 8 يناير الماضى جاء فيه: "تُعد المؤسسة العسكرية من ناحية ما مؤسسة أعمال تجارية مترسخة فى الاقتصاد (تساهم ب25 - 40% من الناتج الإجمالى المحلى)، ولكن الأكثر خطورة من ذلك هو ترجمة هذه القوة الاقتصادية فى قاعدة دعم اجتماعية؛ بمعنى أن هناك 400000 مهنى بالجيش وأسرهم والتى يمكن أن تقدر بمليونى مستفيد من الترسيخ الاقتصادى للمؤسسة العسكرية". بل أكثر من ذلك تملك القوات المسلحة بقوة القانون والتشريع منذ انقلاب 52 وحتى اليوم السيطرة على معظم أراضى القطر المصرى غير المأهولة، وهذا ما كشفته الدكتورة زينب أبو المجد فى مقالها شديد الأهمية بتاريخ 6 مايو الحالى وعنوانه "دولة قانون وزارة الدفاع" والذى أوضحت فيه أن مساحة مصر غير المأهولة تخضع لسلطة ثلاث هيئات حكومية على رأسها العسكر. فكيف يمكن أن نصدق أن المؤسسة العسكرية التى تسيطر على 40% من الاقتصاد المصرى، وظلت طوال 60 سنة تسيطر على الحياة السياسية وتسيطر على 90% من مساحة مصر.. كيف يمكن أن تتخلى أو تقبل التخلى عن سلطتها وتسلم أهم كيان لها منصب رئيس الجمهورية لتيار إسلامى جاء على رأس المشهد السياسى بعد ثورة شعبية اقتربت أن تكون فى ذمة التاريخ دون توافقات أو ضمانات ما؟! أثر انقسام التيار الإسلامى على مستقبله السياسى من خلال تحليل سريع لل15 شهرًا الماضية التى أعقبت خلع مبارك يمكن أن نقول إن الإستراتيجية العسكرية قامت ولا تزال على تحقيق هدفين: الأول تشظى القوى السياسية والشعبية التى قامت بالثورة وهذا أمر نجحت فيه إلى حد كبير. والثانى: تفخيخ التيار الإسلامى ذاته وشرذمته وهذا ما نجحت فيه كذلك بنسبة كبيرة فقد ظهر بوضوح هذا الاختلاف فى البرلمان ورفض حزب النور السلفى إقالة الحكومة ومنذ وجود أبو إسماعيل فى سباق الرئاسة وعدم دعمه لا من الإخوان ولا من التيار السلفى رغم شعبيته الجارفة وتخليهم عنه فى معركته العادلة، وبدا أن كلا الفريقين شعر بالراحة منذ استبعاده، ثم فى المعركة الانتخابية الدائرة التى تلخّص المشهد المأساوى لهذا التيار؛ فيقف الإخوان المسلمون وحزبهم خلف محمد مرسى وتقف الدعوة السلفية وحزبها خلف عبد المنعم أبو الفتوح، وكلا الجانبين يلقى اللائمة على الجانب الآخر لأنه عمل على تفتيت "الصف" و"شقه"، ولا يمكن أن نقول إن التيار الإسلامى فى مصر موحد! فى ظل هذا المشهد تصبح معركة الرئاسة والدستور أهم المعارك التى يخوضها هذا التيار مع المؤسسة العسكرية التى صرحت بوضوح أنها لن تتنازل عن حقوقها "الاقتصادية" و"ستقاتل" للدفاع عنها، ولا نستغرب إذا دافعت عن مكانتها السياسية والقانونية كذلك من خلال "مجلس الدفاع الوطنى". * باحث مصرى فى الدراسات التاريخية