لقد نجحت تايوان فى تحقيق معدلات مرتفعة من التنمية خلال الستين عاماً الماضية فى ظروف بالغة الصعوبة، لقد استطاعت دولة شديدة الافتقار إلى الموارد الطبيعية، وتعانى من عزلة دبلوماسية قوية، وتعيش تحت التهديد العسكرى بالاجتياح الصينى لها فى تحقيق معجزة تنموية مذهلة، وليس هذا فحسب، بل لقد تجاوزت تايوان المسارات التقليدية للتنمية من خلال الحفاظ على بنية اجتماعية شديدة المساواة، ومستويات مرتفعة من المساواة فى الدخل حتى فى أثناء حقبة الحكم الشمولى بها، وإذا أخذنا فى الاعتبار عدد السكان، فسوف نجد أن تايوان تصدر 4 أمثال صادرات الولاياتالمتحدةالأمريكية من البضائع والخدمات، وباختصار فإن هناك عددًا قليلاً من الدول التى استطاعت مثل تايوان أن تحقق مستويات عالية جداً من النجاح الاقتصادى المقرون بأقل معدلات البطالة فى العالم. وتحاول هذه المقالة تحليل الأسباب التى وقفت وراء احتلال تايوان لهذه المكانة المتميزة فى الاقتصاد العالمى من خلال تحليل السياسات التنموية فى الفترة من 1950 حتى 2010. وسوف نستهل هذا التفسير بتحليل للعوامل الاقتصادية والثقافية التى لعبت دوراً بارزاً فى تحقيق هذه النهضة الاقتصادية السريعة والضخمة، ويتطلب ذلك تحديد العوامل الهيكلية الرئيسية للاقتصاد التايوانى؛ تلك العوامل التى سمحت لهذا الاقتصاد بقدر كبير من المرونة أتاحت له القدرة على التكيف مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العالمية والمحلية، وسوف نركز فى هذه المقالة على تحليل العوامل الثقافية التى أسهمت فى تحقيق هذه النهضة، على أن نتلوها بعدد آخر من المقالات نركز فيه على دور العوامل الاقتصادية. وأول هذه العوامل الثقافية هو القدرة على التكيف السريع مع الظروف الاقتصادية والسياسية المتغيرة. وعلى الرغم من اتصاف غالبية التجارب التنموية الناجحة بهذه الصفة، إلا أن ما يميز التجربة التايوانية هو استمرار هذه القدرة على التكيف لمدة تزيد عن 60 عاماً. وثانى هذه العوامل الثقافية هو التراث الدينى المتمثل فى الكونفوشيوسية، حيث تشترك تايوان مع الصين - شأنها فى ذلك شأن قصص النجاح الاقتصادى الأخرى فى منطقة شرق آسيا – فى تراث دينى عريق، وقد أثرت الكونفوشيوسية على السلوكين الاقتصادى والاجتماعى وعلى الهياكل المؤسسية فى تايوان بصورة عززت من تحقيق التنمية الاقتصادية، ولعل أبرز تأثير للديانة الكونفوشيوسية هو احترامها العميق لقيمة التعليم، ولا يقتصر هذا الاحترام على تايوان فقط، بل يوجد أيضاً فى الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وسنغافورة، وبالإضافة إلى إجلال التعليم يؤكد التراث الكونفوشيوسى على أهمية العمل الجاد المتقن، ولعل أبرز قسمات التراث الكونفوشيوسى هى تعزيز التناغم الاجتماعى، والتأكيد القوى على فكرة المساواة، وهكذا ساهمت الكونفوشيوسية فى تعزيز الإقبال على التعليم، وتكريس ثقافة الجد والاجتهاد وإتقان العمل، وغرس قيم التعاون والتآزر والعمل الجماعى، وتعزيز مثل العدل والمساواة. ويشير علماء الاجتماع فى الدول الآسيوية إلى ما يسمونه "أخلاقيات العمل الناجمة عن القيم الكونفوشيوسية"، وإلى احترام الاجتهاد فى العمل كنسق اجتماعى، وينظر علماء اجتماع التنمية إلى أخلاقيات العمل الناجمة عن القيم الكونفوشيوسية باعتبارها مناظرة "لأخلاقيات العمل فى التراث البروتستانتى". ويؤكد هؤلاء العلماء أن أخلاقيات العمل الناجمة عن القيم الكونفوشيوسية قد أمدت الشعوب الآسيوية بالدافعية، والنظام، والمهارة؛ وهى أمور جد لازمة لبدء العمليات الأساسية للتحديث التنموى، ونظراً لاحترام الإتقان والاجتهاد فى العمل فقد حققت تايوان زيادة فى معدلات الإنتاج الصناعى تفوق الدول الأخرى بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، وقد شهدت الفترة من 1979 حتى 2009 زيادة معدلات الإنتاج الصناعى فى تايوان بنسبة تزيد عن 6%. وعلى الرغم من وجود عوامل إضافية أخرى غير "أخلاقيات العمل الناجمة عن القيم الكونفوشيوسية"، قد أسهمت فى تحقيق النهضة الاقتصادية التايوانية، إلا أن هذا الميل المجتمعى نحو احترام الإتقان والاجتهاد فى العمل قد أثر بلا شك بصورة إيجابية فى تحقيق التنمية الاقتصادية فى هذه الجزيرة الصغيرة. وإذا كان ثمة دروس لنا أن نتعلمها، فإن أولها أن تحقيق التنمية البشرية والرفاة لمصرنا الحبيبة هو أمر ممكن ويسير لو توافرت عدة شروط، وأول هذه الشروط هى الإرادة السياسية؛ فلا تقدم بدون طبقة سياسية حاكمة مصممة ومصرة ليس فقط على التغلب على الفقر والمرض والجهل بل على منافسة الدول العظمى، وثانى هذه الشروط هى تسخير إمكانات الدولة ووسائل إعلامها لتنوير الشعب وتحفيزه على الجد والمثابرة والاجتهاد. فلابد من إعلام يغرس قيم البذل والعطاء والكدح والتضحية وإنكار الذات، وثالث هذه الشروط هو التركيز على التعليم كمحور أساسى لتحقيق التنمية البشرية، ورابع هذه الشروط هى توظيف قيم الدينين الإسلامى والمسيحى لكى تكون القاطرة التى تجر المجتمع على درب التقدم وتحت ظلال الأخوة والتعاون والتناغم والسماحة. وخلاصة القول إن إمكانات مصر بعد ثورة 25 يناير تؤهلها للمضى قدماً إلى الأمام على مسار التنمية الاقتصادية، فمصر غنية بمواردها الطبيعية على عكس تايوان، كما أن تاريخ وحضارة مصر العريقة أقدم وأعظم بمراحل من تاريخ تايوان أو كوريا الجنوبية، ترى هل نتعلم هذه الدروس؟ ترى هل نجد من يطبق هذه الدروس؟ أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لمصر الطبقة السياسية الحاكمة التى تعى كل ذلك، والتى تضعها فى المكانة التى تستحقها. – دكتوراه فى الاقتصاد والعلوم السياسية – اليابان